طلال سلمان
من قلب بحر الغلط بأمواجه الجارفة التي تجتاح العديد من الدول العربية، مشرقاً ومغرباً، تنبثق، مرة أخرى، «القضية المقدسة» فلسطين التي تكاد تختصر النضال العربي في هذه المرحلة شديدة التعقيد لكثرة التشابكات فيها بين المحلي والقومي، كما بين «النضال» بالشعار السياسي و «الجهاد» بالشعار الإسلامي، والذي يعيد طرح موقع الدين في الحراك الشعبي الذي تشهده المنطقة العربية، في غمرة بحثها عن هويتها وتأمين أسباب الحماية لها من الضياع.
ولقد فوجئ العالم كله، بمن فيه «العرب» بأنظمتهم المتهالكة والغارقة في حروبها البلا قضية غالباً، و «السلطة الفلسطينية» المفلسة وفاقدة القدرة على التأثير، بهذه الانتفاضة الجديدة التي تفجرت بها جنبات فلسطين كافة، انطلاقاً من غضبة الشعب الفلسطيني واندفاعه لحماية المسجد الأقصى وصد طوابير المستوطنين والمتدينين الإسرائيليين الذين لا يتعبون من محاولة السيطرة على هذا الرمز ذي القدسية الاستثنائية إسلامياً، وعربياً، بذريعة البحث العبثي الذي لا ينتهي عن «الهيكل» المزعوم.
للوهلة الأولى، تصورت إسرائيل (ومعها السلطة الفلسطينية) أن الأمر لا يتعدى الاحتجاج المتكرر والمألوف أسبوعاً بعد أسبوع، أيام الجمعة، وعند صلاة الظهر تحديداً، والتي يتزايد العنف في قمع المصلين مترافقاً مع تعاظم هجمات «المتدينين» من اليهود، وأساساً من المستوطنين الوافدين بتعصب أعمى لأسطورة «هيكل سليمان» الذي يزعمون ـ بلا أي دليل من الوقائع أو الآثار ـ أن المسجد الأقصى قد أقيم فوق أنقاضه.
لكن دائرة الاحتجاج سرعان ما تخطت المسجد الأقصى وجواره، والقادمين للصلاة فيه ممن تجاوزوا سن الأربعين، كما فرضت سلطات الاحتلال، إلى القدس (الشرقية)، ثم أخذت تتوسع إلى البلدات والمخيمات والقرى البعيدة عن المدينة المقدسة، بل انها تجاوزت مناطق «السلطة» مخترقة «أراضي 1948» فضلاً عن غزة، التي وجدت فرصة لتأكيد وحدة الشعب الفلسطيني في المواجهة متخطية أسوار الخلاف بين «حماس» و «فتح» وبين «سلطة الأمر الواقع في غزة» و «السلطة الشرعية» في رام الله.
صارت فلسطين جميعاً، ممثلة بفتيانها والصبايا وصولاً إلى اليافعين وحتى الأطفال، في الشارع... وتحول الموضوع من الاحتجاج على منع المصلين من الوصول إلى المسجد الأقصى إلى الجهر برفض الاحتلال، قفزاً من فوق مساومات السلطة ومطالبتها العبثية إسرائيل بالتزام اتفاق أوسلو وموجباته.
كل ذلك وأهل النظام العربي مشغولون بحروبهم المفتوحة داخل أقطارهم، فلم يصدر بيان رسمي واحد يجهر بمساندة «انتفاضة السكاكين»، كما أطلق عليها البعض، ولم تخرج تظاهرة واحدة تأييداً ودعماً لأولئك الفتية من فلسطين وهم يقدمون مشاهد غير مسبوقة للشجاعة والإصرار على تأكيد الهوية ورفض الاحتلال، ولو من فوق رأس «السلطة» ومن دون إذنها، ومن خارج التحركات المدروسة للفصائل والتنظيمات المسلحة.
حتى «السلطة» فضلت «التحرك السياسي» في الخارج على مواجهة الاحتلال، ومواجهة غطرسة بنيامين نتنياهو الذي نشرت له وسائط الإعلام الإسرائيلية مؤخراً لقطة طريفة، تظهره وهو يستخدم منظاراً مغلقاً لقراءة الأحوال في واحدة من جبهات القتال الساكنة حالياً، والتي قد يفتحها الاضطرار غداً.
وكما أخطأ نتنياهو في قراءة «الجبهة» بمنظار مقفل، فهو قد ارتكب خطيئة قاتلة، سياسياً، حين فبرك رواية لا يقبلها عقل وتدحضها كتب التاريخ والسجلات المحفوظة لمرحلة الحكم النازي في ألمانيا: فقد زعم رئيس وزراء العدو الإسرائيلي، عشية زيارة رسمية مقررة إلى بون، أن مفتي فلسطين الأكبر وأحد زعماء نضالها الحاج أمين الحسيني هو مَن حرض هتلر على اليهود في ألمانيا، وظل يلح عليه بوثائق مزورة حتى اتخذ الدكتاتور قراره الوحشي بإبادة اليهود، وأنشأ لذلك شرطة سرية خاصة تتعقبهم وتحملهم إلى أفران الغاز حيث تمّت «المحرقة» التي كانت بين أخطر ما استخدم من تبريرات واختلاقات ووثائق مزورة، لتبرير «الحلف الدولي» بقيادة البريطانيين الداعم «لحق اليهود في فلسطين» ليقيموا عليها دولتهم التي تحميهم من «محارق» أخرى.
لم يجد نتنياهو ما ينافق به الألمان سوى تبرئة قيادتهم النازية وهتلر على رأسها في أوائل الأربعينيات، وفي ظل الحرب العالمية الثانية، من المسؤولية عن واحدة من أفظع الجرائم الجماعية ضد ألوف مؤلفة من شعبه وشعوب بعض الدول التي احتلها في شرقي أوروبا لا لذنب ارتكبوه، كالخيانة ـ مثلاً ـ أو الالتحاق بالعدو، بل لمجرد كونهم يهوداً.
أي أن نتنياهو يحاول مخادعة الألمان ويزوّر لهم تاريخهم بالصفحات السود فيه خلال الحقبة النازية، وذلك بنقل المسؤولية عن إبادة اليهود منهم، عبر زعيمهم المطلق آنذاك، هتلر، إلى زعيم سياسي ليس فقط بحكم موقعه كمفتي القدس، بل كذلك بسبب نسبه الشريف الذي كان بين مسوّغات توليه قيادة النضال الفلسطيني في مواجهة الصهيونية للحفاظ على عروبة فلسطين، بل وعلى حق شعبها فيها، لأنه كان شعبها على مرّ التاريخ، ثم انه قَبِلَ اليهودَ الفلسطينيين باعتبارهم من هذا الشعب ـ أهل الأرض، ولكنه رفض المستوطنين الذين جاءوا كطليعة للجيش الذي دربه «الحلفاء» ثم سلحوه أخطر تسليح وأرسلوه لاحتلال فلسطين وطرد أهلها منها، لكي يستولي على الأرض من لم يكونوا فيها يوماً، ولم يبنوا منازلها ولم يهتموا ببساتينها وبياراتها في أي حقبة من التاريخ.
واتهام المفتي الحاج أمين الحسيني فرية عتيقة، بل بالية، لم يقف أمامها أي مؤرخ أو باحث، ولم يستخدمها أي سياسي إسرائيلي، في مواجهة الألمان.. كما أن كتب التاريخ للحقبة النازية لم تشر إلى هذه الكذبة، التي سبق لبعض الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ان عملت على الترويج لها في وقت مبكر، فضحك منها العالم وتجاوزها، حتى جاء نتنياهو يعيد بعثها نفاقاً واستعداء لألمانيا على الفلسطينيين الذين كان فتيانهم وفتياتهم يخوضون جولة جديدة من جولات مواجهتهم العدو الصهيوني، غاصب أرضهم، في شوارع المدن والدروب الضيقة في القدس.
وأغلب الظن أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد ضحكت من هذه الفرية الإسرائيلية البالية والسابقة على إقامة إسرائيل بالقوة فوق أرض فلسطين وعلى حساب شعبها وحقه فيها.
أما الإسرائيليون فقد باشروا رفع الصوت بالاعتراض على رعونة نتنياهو ودمويته في مواجهة انتفاضة الفتية الفلسطينيين، وخرجت تظاهراتهم في تل أبيب هاتفة بسقوطه.
في أي حال، فإن هذه الكذبة لا يمكنها أن تطمس الوقائع المكتوبة بالدم على الشوارع والطرقات في مدن فلسطين المحتلة وقراها، بما في ذلك أراضي 1948، التي سجلها الفتيان والفتيات من أبناء الجيل الثالث أو الرابع من «أهل النكبة».
فقد شملت الانتفاضة الجديدة شباب فلسطين، كل فلسطين، بلا سند من سلطتهم، وبلا دعم من تنظيماتهم المسلحة، ووسط تجاهل عربي مهين، تقابله «دهشة عالمية» و «إعجاب غير مكتوم» أبدته قوى سياسية عديدة في بعض أنحاء أوروبا، واستدرج استنكاراً دولياً واسعاً وتعاطفاً واضحاً مع الشعب الفلسطيني المقهور بالاحتلال، كما بعجز «سلطته الشرعية» عن وقف القتل والاعتقال الجماعي للشباب الذي خرج يقاوم بلحمه الحي، توكيداً لرفضه الاحتلال ومحاولاته طمس حقه في أرضه.
وحدهم العرب الغارقون في دماء حروبهم ضد الذات وضد التطرف الديني بالشعار الإسلامي ظلوا غائبين عن دعم الانتفاضة، ولو ببيانات الشجب والاستنكار.. كما أن الشعوب المضيَّعة في هذه الحروب التي تستهدف يومها وغدها قد عجزت عن إسناد هذه الانتفاضة، معنوياً، ولو بالتظاهر ورفع الصوت ضد الجرائم المشهودة والمنقولة بالصورة والصوت إلى مختلف أنحاء العالم.
لكن البشرى جاءت مع وزير الخارجية الأميركية حين التقى رئيس السلطة الفلسطينية في عمان، بعد لقاء مع الملك الأردني، إذ أعلن جون كيري أن العدو الإسرائيلي قد وافق على السماح للفلسطينيين بالصلاة في المسجد الأقصى... بشرط ألا يعتدوا على «المتدينين اليهود» أثناء تجوّل جحافلهم حول المسجد وجدرانه والطوابق السفلية التي تعبوا من الحفر فيها عبثاً في محاولة لتأكيد أسطورتهم، التي تزعم أن هيكل سليمان كان مقاماً في تابوت الرب أو قدس الأقداس وأن الملك سليمان مدفون هناك، وهم يريدون هدم الأقصى لإعادة بناء هيكل سليمان والعثور على تابوت الرب. ومعروف أن «الحريديين»، وهم الذين يقتعدون ذروة التطرف، يمنعون على اليهود أن يدوسوا تلك المنطقة، قائلين إنه لا تجوز زيارتها إلا بعد تطهير المكان.
وتطهير المكان يعني طرد الفلسطينيين، أهل الأرض، من القدس جميعاً، وتهديم المسجد الأقصى (وربما قبة الصخرة أيضاً) لإعادة بناء الهيكل مكانه.
وفتية فلسطين، الذين يحتلون المشهد الآن، يواجهون كما أهلهم من قبل، العالم كله، وفيه حكام العرب والسلطة الفلسطينية، قبل جحافل الاحتلال وبعدها.. وليس لهم إلا الله.
على أن الانتفاضة سوف تلد انتفاضة أخرى، وبوسائل جديدة مبتكرة، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.