طلال سلمان
خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود
تحية عربية مع خالص التقدير والاحترام وبعد،
أكتب إليكم كمواطن عربي من لبنان يرئس تحرير صحيفة أساسية فيه، سبق أن تشرّف بلقائكم غير مرة، في بيروت كما في الرياض، كما على هامش قمة الكويت حيث هتفت وأنت تقدمني لرئيس دولة عربية كبرى: «هذا عربي، عربي، عربي، وقلمه صادق في إخلاصه لأمته»، وكذلك على هامش قمة الدوحة، وعلى هامش القمة العربية في دمشق...
كذلك فلقد تشرّفت بإجراء أكثر من حديث صحافي مع جلالتكم، كنتم فيه في غاية الصراحة والقسوة على بعض الحكّام العرب الذين كانوا يروّجون لمشروع الشرق الأوسط الجديد، وكنتم ترون في ذلك خروجاً على إرادة الأمة وتهديداً لقرارها في ما يتصل بأسباب تضامنها وبناء قدراتها الذاتية بكفاءات أبنائها وبإمكاناتها المميزة، والتي هي من أفضال الله عليها..
ولقد حفزني على توجيه هذه الرسالة القلق العميق الذي يعيشه اللبنانيون في ظل «تهديدات مبطنة» وحملات تحريض مكشوفة توالت عليهم في الفترة الأخيرة في بعض الصحف السعودية، فضلاً عن الخليجية عموماً، وفيها ما هو مكتوب بنفس طائفي بغيض، وبعضها الآخر تحريضي يُخرج بعض مكوّنات لبنان الأنقى في عروبتها من العروبة، وهي في مجملها دعوة إلى «طرد» الرعايا اللبنانيين العاملين في المملكة كما في سائر أقطار الخليج العربي من مواقع عملهم ومصادر رزقهم الذي يبذلون من أجله عرق الجباه وكفاءاتهم العلمية وزهوهم بأنهم إنما يساهمون ـ ولو كأفراد ـ في نهضة المملكة والخليج عموماً بعلمهم وخبراتهم وصدق إيمانهم بوحدة أمتهم وإرادة الخير وتمني التقدم لها جميعاً.
ثم كانت الزيارة ـ الإنذار التي قام بها الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي إلى بيروت، والذي صحب سفراء دول مجلس التعاون الخليجي إلى لقائه رئيس الجمهورية في القصر الجمهوري في بعبدا، ليبلغه ـ باسم المجلس ـ نوعاً من الإنذار، نتيجة لما يفترضونه «انحيازاً» إلى النظام السوري في المواجهة الضارية والمفزعة مع قوى المعارضة بهيئاتها المختلفة والمتمايزة سياسياً إلى حد التناقض مع طبيعة شعب سوريا ودوره المجيد في خدمة قضايا أمته.
خادم الحرمين الشريفين،
كان هذا الإنذار قاسياً ومخيفاً: فهو يتجاوز إطار العلاقات الأخوية، ويمثل استقواءً على أشقاء مستضعفين يلحقهم الأذى مضاعفاً نتيجة الأزمة الدموية التي تعصف بسوريا وتهدد وحدتها، بل وتتجاوز ألسنة نيرانها الدولة السورية على اتساعها لتنذر بمخاطر الفتنة والحروب الأهلية والتشقق كل الكيانات السياسية المجاورة، وتتسبّب في زلزلة وحدة الشعب في كل من أقطار المشرق العربي، ولبنان على وجه الخصوص.
ولبنان، كما تعرفون جلالتكم، أضعف من أن يكون طرفاً مؤثراً، بل إنه يتحمّل انعكاسات هذه العاصفة الدموية التي تضرب سوريا، وتهدد ليس أمنه واستقراره فحسب، بل وحدته الوطنية أساساً، وصولاً إلى دولته.
فسوريا تحيط لبنان من شماله وشرقه، بينما يتهدده الخطر الإسرائيلي المفتوح من الجنوب، فلا يبقى له إلا البحر في الغرب.
وصحيح أن اللبنانيين، داخل السلطة وخارجها، منقسمون حول الوضع في سوريا، ولكنهم بمجموعهم أعجز من أن يؤثروا في حسم الصراع الدموي الدائر فيها، وهم قد توافقوا على سياسة النأي بالنفس التي تقارب الاستحالة.. فالنار السورية تلفح لبنان من الشرق والشمال، ومنع تهريب السلاح منها وإليها شبه مستحيل لا سيما في ظل الانقسام حول الموقف مما يجري فيها، والمفاضلة مستحيلة بين نظام متجبّر وبين معارضات بغير قيادة موحدة وإن برزت في مقدّم صفوفها هيئات وتنظيمات تكفيرية بعضها أشد فتكاً من «القاعدة» وأبعد منها عن التفكير بما يحفظ سوريا، إذا ما هي تمكنت من إسقاط نظامها الذي عجز عن إصلاح مكامن الخطأ فيه وعن الاستجابة لمطالب شعبه في حماية الدولة والبلاد ودورها الذي كان يشكّل مركز ثقل في السياسات العربية، فأضاعه.
وهكذا التزم لبنان ضوابط عجزه عن التأثير: فلا هو قادر على اتخاذ موقف يجعله في موقع المقاتل ضد نظام يستشرس في الدفاع عن حكمه، ولا هو مؤهل لأن يكون موئل المعارضة المسلحة وطريق عبورها وإمدادها بالسلاح والرجال، خصوصاً وأن كثيراً من هؤلاء المقاتلين كانوا يجيئون من أربع رياح الأرض، ويجاهرون بتهديد «الكفار» و«المشركين» و«الرافضة»، وكل من تخلّف عن قتال النظام السوري، أي الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
وبين ضوابط هذا العجز تدفق اللاجئين من الإخوة السوريين والفلسطينيين الذين يقيمون في سوريا، وقد تجاوز العدد الثلاثمئة ألف، وهو إلى ازدياد مستمر طالما استمرت الأزمة الدموية في سوريا... ومساعدات الدول العربية والأجنبية محدودة، علماً أن «الأهالي» في لبنان بشماله وجنوبه وبقاعه وجبله فضلاً عن عاصمته الأميرة بيروت قاموا بواجب الأخوة ضمن قدراتهم.
خادم الحرمين الشريفين
إن لبنان يدفع بعض أثمان الأزمة الدموية التي تعصف بسوريا من استقراره، وهو هش كما تعرفون ولطالما تدخلتم بالحكمة والكلمة الحاسمة لحفظه..
ثم إن الوحدة الوطنية في لبنان مهددة بالزلزال السوري، وهي أصلاً ضعيفة، وكثير مما تبقّى من ركائزها قد صيغ عبر احتضانكم مؤتمر الطائف الذي ابتدع الصيغة التوافقية المهددة بالانفراط الآن، ليس فقط بفعل الآثار الجانبية للحرب في سوريا وعليها وإنما بسبب ركاكة الطبقة السياسية وانشغالها عن حماية وحدة الشعب وتثبيت ركائز دولته بتأمين حصصها في النظام المتهالك.
إن لبنان، يا صاحب الجلالة، يعيش في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، فموسم الاصطياف كان تعيساً، وبعض القرارات الجائرة التي منعت الأخوة من أبناء المملكة والخليج من القدوم إليه والتوظيف فيه، قد أصابت اقتصاده المضروب أيضاً بالأزمة السورية في مقتل.
على أن الأقسى والأمرّ، يا خادم الحرمين، أن يسمع اللبنانيون تهديدات علنية بطرد من ذهبوا إلى المملكة وإلى سائر أقطار الخليج، يخدمون بكفاءاتهم وقدراتهم، التي تقدّرون أهمية مساهمتها في تقدم بلادكم وما جاورها... خصوصاً وقد واكبت الأقوال والشائعات تعليقات قاسية جداً في صحف تعتبر رسمية وناطقة باسم أهل الحل والربط. بل لقد اتهمت كثرة من اللبنانيين في عروبتهم، وشنت عليهم حملات طائفية قاسية ومبتذلة، لم توفر حتى من ضحّوا بدمائهم لحماية لبنان بصد الاجتياح الإسرائيلي في العام 2006، ممّن شهدتم لهم بالبسالة التي تماثل الجهاد في سبيل الله.
خادم الحرمين الشريفين،
لقد وقع كلام النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء السعودي سمو الأمير مقرن بن عبد العزيز أمام وفد رؤساء الهيئات الاقتصادية اللبنانية في قصره في الرياض، أمس الأحد، برداً وسلاماً على اللبنانيين جميعاً إذ طمأنهم إلى أنهم، «على اختلافهم، مرحّب بهم في المملكة بلدهم الثاني»..
كذلك فإن نفي سموه ما يشاع عن توجّه المملكة لاتخاذ إجراءات بحق اللبنانيين العاملين فيها، معلناً «حرص المملكة على وجود الجالية اللبنانية على أراضيها، وهم دائماً محل تقدير لدى قيادة المملكة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين... وأن سياسة المملكة تجاه لبنان لن تتبدل، لأن للبنان محبة خاصة عند المملكة، لا سيما عند خادم الحرمين الشريفين الذي سيظل داعماً للبنان واقتصاده، وسيظل على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين لأن الاستقرار في لبنان يشكل مدخلاً أساسياً ليظل لبنان يلعب دوره الريادي المعروف على مستوى المنطقة».
خادم الحرمين الشريفين
لم نتعوّد في «السفير» أن ننافق حاكماً، أو أن نسكت ـ وضمن أصول مهنتنا وواجبنا ـ عما نراه خطأ أو خطراً في تصرفات الحكم في لبنان أو في سياسته العربية.
ولكننا نرى في الحملة التي شُنّت وما تزال تُشن (صحافياً على الأقل) على لبنان واللبنانيين، واتهامهم في وطنيتهم وفي عروبتهم، والترويج لمقاطعة لبنان وطرد اللبنانيين الذين يسفحون عرق الجباه في المملكة وأقطار الخليج، افتئاتاً على الحق والحقيقة، وظلماً فاضحاً لأخوة لا يريدون لأهلهم جميعاً إلا كل الخير، فكيف إذا كانت بلادهم مصدر خير لهؤلاء اللبنانيين المهدّد وطنهم في وحدته والمشلولة دولته نتيجة الانقسام وافتقاد التضامن بين قياداته وقواه الحية.
خادم الحرمين الشريفين
لسنا حزباً سياسياً، ولسنا في موقع رسمي مسؤول، ولكننا نفترض أننا نعبّر عن ضمير الناس ونحن نخاطبكم لندعوكم إلى التدخل الحاسم، في المملكة، ومن موقعها القيادي مع أصحاب القرار في الدول الخليجية لفك الحصار الظالم عن اللبنانيين وتهديدهم في لقمة عيشهم التي يستحقونها بعرق الجباه وكفاءة العقول ومهارات الإنجاز.
لم تترددوا في الماضي عن نجدة لبنان، وهو الآن في محنة أشد، نتيجة الانعكاسات المباشرة للأزمة الدموية السورية على وحدته الوطنية كما على اقتصاده وعلى ناتج عمل أبنائه المنتشرين في أربع رياح الأرض سعياً إلى الأمان وتحقيق الغد الأفضل لأبنائه في وطنهم الصغير، العربي بالانتماء كما بالمصلحة.
فبادروا رعاكم الله، ورشّدوا قرار إخوانكم في مجلس التعاون الخليجي، إلى حفظ مبادئ الأخوة العربية وحماية الرعايا اللبنانيين الذين طالما دفعوا ـ ومن دمائهم أحياناً ـ في سبيل نصرة القضايا العربية، كما أنهم سخّروا عقولهم وخبراتهم وزنودهم في بناء النهضة الممتازة التي تشهدها أقطار الجزيرة والخليج.
وفي الختام، تقبّلوا يا صاحب الجلالة، تقديري واحترامي واعتزازي بعروبتكم.