طلال سلمان
عشنا «النكبة» حتى ألفناها واستوطناها بديلاً من فلسطين.
انتثرت فلسطين مزقاً: بين «داخل» محتل بالكامل هو بعض «إسرائيل»، و«خارج» نزعت عنه هويته الفلسطينية فصار «الضفة الغربية» لنهر الأردن، قبل أن يضمها الأمير عبد الله بن الشريف حسين الهاشمي ليصير ملكاً.. في حين انتشر الفلسطينيون كلاجئين في «دول الجوار» القريب أساساً: الأردن، من دون أن تحظى أكثريتهم الساحقة بشرف «المواطنة»، وسوريا في مخيمات بؤس تليق بـ«العائدين»، وفي لبنان كلاجئين... والكل تحـــــت رعاية «الأونروا»، وهي المنظمة أو الوكالة الدولية التي أنشأتها الأمم المتحدة لغوث الـــــلاجئين بعــــد شطــــب الحرف الأخير من اسمها الأصلي (P) والذي كان يدل على تخصصها باللاجـــــئين الفلــــسطينيين تحديداً وبالذات... أي إنها ليست مفتوحة لغيرهم من اللاجئين والمشردين من ديارهم حيثما أوجدتهم الحروب أو الكوارث الطبيعية في أربع رياح الدنيا.
بعد «النكبة» وقعت علينا «النكسة» في 5 حزيران 1967 فتوسع الاحتلال الإسرائيلي ليضم كامل الأرض الفلسطينية، وبعض الأراضي المصرية (شبه جزيرة سيناء) والسورية (هضبة الجولان) واللبنانية المتصلة بها (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا..).
ولقد نهضت مصر جمال عبد الناصر بعد «النكسة» لتعد نفســـها إعداداً فعلياً وشاملاً على مختلف المستويات، عسكرياً، بالإعداد والتدريب والتـــــسليح الأحدث والأعظم فعالية (لا سيما على مستوى الطيران والصواريخ الســـــوفياتية الممتازة ضد الطائرات سام 6ـ7 إلخ، وإشراك الشباب من متخــــرجي الجامــــعات في «الجيش الجديد» المؤهل لمواجهة مع واحد من أقوى جـــــيوش العالم الذي كان قد باشر العدو الإسرائيلي إعداده عشـــــية «النكــــبة»، ثم ظــــل يعزز قدراته من دون توقف.
رحل عبد الناصر في 28 أيلول 1970، وبعدما كانت «حرب الاستنزاف» التي خاضها الجيش المصري قد وفرت امتحاناً بالدم للمعركة المقبلة التي كان يفترض أن تفتح صفحة جديدة مختلفة نوعاً عن سابقاتها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي... واتخذت الأحداث سياقاً جديداً بل مضاداً بعدما تولى أنور السادات مقاليد السلطة في مصر، فذهب إلى الحرب بالشراكة مع سوريا.. ولكنه سرعان ما أوقف تقدم الجيوش المصرية تاركاً للعدو الإسرائيلي فرصة الاستفراد بالجيش السوري الذي لم يكن يملك القدرة ـ لوحده ـ على مواجهة العدو منفرداً، خصوصاً وقد تفرغ له الإسرائيليون بطاقاتهم القصوى.
تكاملت صورة النكبة الجديدة: فالمقاومة الفلسطينية كانت قد تجمعت بمختلف فصائلها، في لبنان، بعدما طردها الأردن وسهّلت لها سوريا طريق الوصول إلى بيروت الساحرة، المغرية، والتي تضج بالتظاهرات ذات الشعارات الثورية، ولا ثورة.
وهكذا، أوقف إطلاق النار على «الحدود الجديدة» بين ســـــوريا والعدو الإسرائيلي، باتفاق دولي، جاء متمماً لوقف النار على حدود مصر (الجـــــديدة أيضاً) باتفــــاق تحت الرعاية الأميركية لن يتأخر حتى يصبح «سلاماً كاملاً» افتتحته زيارة الرئيس المصري الراحل (اغتيالاً) أنور السادات إلى القدس المحتلة ثم توالت مفاوضات «السلام» حتى انتهت باتفاقية الصلح التي عقدت برعاية الرئيس الأميركي الذي شارك في توقيعها كشاهد وضامن في منتجعه الذي سيدخل «التاريخ العربي»: كمب ديفيد!
هل كانت مصادفة أن الحرب الأهلية في لبنان قد اشتعلت في هذا التوقيت بالذات وضمن هذه الظروف المحيطة جميعاً؟. وأن يكون «الفلسطيني» الذي استقرت قواه المقاتلة بمجموعها، في معظم أنحاء «الوطن الصغير»، بعاصمته بيروت واحة الحريات، مركز تجمع الأقليات الطائفية والمذهبية، و«اللاجئين» الذين غدوا «ثواراً» مخترقين النسيج الاجتماعي و«كانتونات» الطوائف؟!
لم تتأخر الحرب الأهلية كثيراً في التوسع لتغدو حرباً أهليـــــة عــــربية، غمرت الدماء فيها معظم الأرض اللبنانية، موفرة فرصة للتدخل السوري الــــذي سرعان ما وجد غطاءه العربي، عبر اشـــتباك كـــــان حتمياً مــع «قـــوات الثورة الفلــــسطينية» التي كانت قد تمركزت في بيروت المغرية وتاهت عن طريقها إلى فلسطين.
ثم كان ما كان من أمر الاجتياح الإسرائيلي لبنان في صيف العام 1982 الذي أدى ـ وعبر وساطة أميركية ـ إلى خروج القوات الفلسطينية لتنتشر بعيداً عن فلسطين، في المساحة المفتوحة ما بين تونس واليمن.
في المنافي تتآكل الثورات كما في الحروب الأهلية، وتركز جهد منظمة التحرير بعد ذلك على محاولة الحصول على اعتراف الدول الصديقة بها كحكومة لدولة داخل فلسطين.
استغرق الأمر عشر سنوات أو يزيد قبل إنجاز «اتفاق أوسلو» الذي فتح الباب لعودة من كانوا في صفوف المقاومة كسلطة فلسطينية في الضفة الغربية، بعد استثناء القدس الشرقية منها ليظل وضــــــعها معلقـــــاً تتناهبها المستوطنات والحفريات في أساسات المسجد الأقصى بحثاً عن أساطير بنـــــــي صهيون... أما بقية الأرض التي تركت في عهدة السلطة فيجري تذويبها بالمستوطنات ولا من يتـــــحرك لوقفها إلا العزّل من أبناء الشعب المقهور بالاحتلال... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير!
فلسطين الآن شظايا أرضها متباعدة، وأهلها «شعوب» شتى:
«الداخل» إسرائيلي الهوية بالأمر
والضفة تحت «السلطة» في الأسر،
وغزة في أيدي «حماس» حتى إشعار آخر، ولا صلة أو اتصال «طبيعي» بالضفة وأهلها..
.. وملايين اللاجئين يتوزعون بين لبنان وسوريا (وقد نزح عشرات الألوف منهم مجدداً في اتجاه أشقائهم في لبنان، إلا من استطاع الحصول على فيزا لجوء في بعض دول أوروبا، لا سيما اسكندنافيا)... فضلاً عن المنتشرين في بعض أنحاء دول الخليج العربي وأقطار المغرب، مع الأخذ بالاعتبار أن فلسطينيي الأردن قد صاروا «أردنيين» في ظل تمييز موجع.
السلطة أعجز من أن تكون نواة لدولة، واللاجئون يمتنع عليهم أن يكونوا شعباً أو بعض شعب والمستوطنات تلتهم «الداخل» فتذوب أحلام عودة من في الخارج وتذهب بطمأنينة من ما زالوا في «الداخل» حتى إشعار آخر، وبلا أمل بدولة أو شبه دولة، خصوصاً وأن «الدول» العربية التي كانت تبدو كالقلاع تتهاوى وتضربها زلازل الحرب الأهلية.
اليوم تبدو «النكسة» تجسيماً لـ«النكبة»، خصوصــــــاً وان صـــــلح السادات المنفرد قد تمدد فشمل الأردن، واستوعب آخر حصون النضال الوطني الفلــــسطيني..
لقد تكاملت النكبة بالنكسة ثم توجهما الصلح المنفرد فإذا «القضية المقدسة» تفتقد أهلها الذاهبين وعيونهم مفتوحة إلى هاوية بلا قعر، خصوصاً وقد بات العديد من الدول العربية، التي كانت تتبدى متماسكة البنيان، يعيش في ظلال حرب أهلية معلنة أو مضمرة يجري الإعداد لها على مدار الساعة..
وها هي دول الجوار الفلسطيني تتبدى متصدعة البنيان مهددة في وحدة شعوبها كما في وحدة كياناتها السياسية.
«النكبة» ولادة... ومن مســـــتولداتها «النــــكسة» التي حولها إجهاض حرب رمضان ـ تشرين 1973 إلى اغتيال للغد العــــربي جميعاً.. وعلـــى فظاعة ما حل بفلسطين فإن الأرض العربية خارجها تبدو حبلى بأحداث مصيـــــرية من شأنها أن تبدل في خرائط الكيانات بحيث تتصاغر نكبة فلـــسطين وســـــط «النكبات» الدمــــوية التي عشناها ونعــــــيشها وســـــوف نعــــيشها في العديد من الأقطار العربية الـــــتي كانـــــت تتبدى كدول قويـــــة في ظل شعارات «تحرير فلسطين».