طلال سلمان
بداية، لا بد من تحية تقدير للهيئة المدنية لدعم مذكرة بكركي الوطنية، ولراعيها غبطة البطريرك الماروني بشاره الراعي الذي أضاف حيوية استثنائية إلى الحوار الوطني حول الحاضر والمستقبل.
لقد تجاوزت الهيئة الإطار الطائفي لتطرح هذه المذكرة المتخمة بالهواجس والمخاوف، لنقاش مفتوح يشارك فيه الجميع... مع التمني بأن يتجاوز النقاش ما ألفناه من مجاملات تفرضها اللياقة ومراعاة الحساسيات الطائفية والمذهبية، وان يرتفع إلى المستوى الذي طمح إليه من اعتبرها مذكرة وطنية.
... فالمذكرة محطة بارزة في مسار النقاش المفتوح دائماً حول ما يفترض أنها ثوابت وطنية، كالهوية والدور والعلاقة بالمحيط العربي، وإعادة تعريف العروبة باعتبارها «رابطة حضارية تقرب بين العرب وليست مشروعاً سياسياً يباعد بينهم، وبوصفها أيضاً مدخلاً لتجديد مساحة العرب في الحضارة العالمية».
مع ملاحظة أولية لا بد منها مفادها أن استذكار «المتصرفية» بوصفها القاعدة أو الأم الشرعية لهذا الكيان قد يثير من الخلافات وعوامل القلق أكثر مما يأخذ إلى الاطمئنان. فلا قرار المتصرفية وطني المنشأ، ولا المتصرف هو النموذج المطلوب لرئيس الجمهورية، ولا الفتنة هي الأساس في قيام هذا الكيان... إلا إذا أراد البعض أن يثبتها كمصدر دائم للخوف يلتهم الاعتزاز بالانتماء إلى وطن يجسد إرادة أبنائه في أن يكونوا مواطنين لا رعايا ودولتهم باعتبارها ضمانة حياتهم والتجسيد الحقيقي لإرادتهم، لم يفرضها الخارج ولا يضمن هذا الخارج استمرارها بنظامها الفريد.
وانه لأمر مفزع أن تكون هواجس الخوف على الطائفة الممتازة والمميزة في موقعها الاستثنائي في النظام والدولة لا تزال تطغى على مشاعرها الوطنية، وقد تأخذها إلى طلب الضمانات، والمزيد من الضمانات، من الداخل والخارج، وكأنها مهددة دائماً في وجودها... في حين أن اللبنانيين جميعاً خائفون، وهو خوف يتجاوز الموقع في النظام إلى وجود الوطن ودولته ومستقبلهم فيه وفيها، وفي الحقيقة، فان هذا الخوف يتنقل بين الطوائف فيشملها جميعاً، وبالتناوب المنظم بحسب تعاظم أو تناقص نفوذ دور الطائفة والدولة التي ترعاها في هذه الحقبة أو تلك... مع الإشارة إلى أن الموارنة خاصة، والمسيحيين عموماً، قد حظوا دائماً بالرعاية الشاملة... وهو أمر لم يحظ بمثله «شركاؤهم» في الوطن من المسلمين.
إن المذكرة الوطنية التي اعتمدها صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك انطاكية وسائر المشرق الكلي الطوبى، لحظت بشكل لافت موعد صدورها عشية الذكرى المئوية لإقامة هذا الكيان وكأنه فاصل بين تاريخين. فاللجنة وضعت هذه المذكرة ونظرها متجه نحو العام 1920 وكأنه موعد قدري مع «لبنان كوطن نهائي لجميع أبنائه»، مستشهدة بما قاله قداسة البابا في خطاب له أمام السلك الديبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي في 13/1/2014 «حول الاختلافات التي من شأنها أن تقوض استقرار البلاد».
هل ترانا لا نزال نطمئن إلى الخارج أكثر من اطمئناننا إلى بعضنا البعض نحن الذي يجمعنا الوطن ودولته، التي تحتاج كل فترة إلى أعادة نظر في نظامها السياسي الفريد، مما يهدد بتصديع وحدتنا الوطنية كأنما هي من ورق؟!
وإنها لشجاعة ملحوظة من البطريركية المارونية أن تطرح، في عهدها الجديد، مسائل خلافية سياسية بالعودة إلى جذورها الفكرية.
كذلك، فان اختيار موعد هذا النقاش عشية الذكرى المئوية لإقامة الكيان، في مؤتمر فرساي، سنة 1920، ونتيجة لجهود البطريرك الحويك الذي واكبه على امتداد سنة، تقريباً، أمر له دلالة فائقة.
على أنه من الضروري تسجيل بعض الملاحظات على الصياغة، وبينها:
انه لتجاوز خطير أن يتم التنكر لدور المسيحيين في إعادة صياغة العروبة كهوية جامعة لهذه الشعوب في الأرض التي استمدت هويتها من أهلها... فالمغرب عربي بقدر ما هي اليمن عربية، وفلسطين عربية بقدر ما هو لبنان عربي، وسوريا عربية بقدر ما هي مصر عربية... ولا فضل لعربي على عربي إلا بالاجتهاد.
ويحفظ العرب، بأكثريتهم الإسلامية الساحقة، للمسيحيين من بينهم، أنهم أصحاب الفضل في صياغة العروبة كهوية جامعة لهم، على اختلاف أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم، وحتى على اختلاف الهويات التي يتحدرون منها كالكلدانية ـ الأشورية والسريانية... الخ. وكلها شرعية الوجود التاريخي في هذه الأرض.
ومؤكد أن اللبنانيين لم يتحدروا من صخور الجبال، ولم يأت بهم البحر من البعيد، ولا هم نبتوا وينبتون في قلب الغابات التي تلتهمها الحرائق المفتعلة كل ربيع قليلاً وكل صيف كثيراً.
هذا نقاش عبثي يغلب ما هو ديني أو طائفي على ما هو سياسي ووطني... فاللبنانيون عرب، كسائر إخوانهم المنتشرين بين المحيط والخليج، وان تميز دورهم، بين أهلهم، الذي شاركت في صنعه الوقائع التاريخية والجغرافية، الاجتماعية والثقافية، كنتيجة منطقية لحقبات الهيمنة الأجنبية، عثمانية وأوروبية والتي كثيراً ما استخدمت الدين كسلاح في تمرير سياسة فرق تسد.
أيها الأصدقاء،
يفترض، نظرياً، إننا جميعاً ـ كلبنانيين ـ مع حفظ السيادة وحصرية القوة العسكرية في يد الشرعية، واستكمال البناء الجدي لجيش عصري... ولكننا جميعاً قد خرقنا وما زلنا نخرق هذه السيادة، بالتناوب، ويكون العذر دائما «الخوف على الطائفة».
ويفترض نظريا، أننا جميعاً، مع استقلالية القضاء وحرمته، لكننا نشهد مذابح في القضاء تكاد تذهب برصيده، والتبرير دائماً طائفي...
... وجميعنا مع وضع قانون انتخابي جديد وفق الميثاقية اللبنانية التي يبدو أن لكل طائفة وجهة نظر فيها بدليل عدم الاتفاق على مشروع هذا القانون العتيد... فما يطمئن طائفة يهيج طائفة أخرى، فنستعيد قانون الماضي لمستقبلنا، ونسير في تظاهرات تهتف للديموقراطية.
ويفترض، نظرياً، أننا جميعاً «من العرب» وان كنا «غير شكل» عن سائر العرب، بسبب من وضعنا الخاص الذي ابتُدِعَ له نظامٌ خاص في كيان خاص، ومُنِح من الاستثناءات - عربياً - ما لم يمنح لغيره.
برغم ذلك، فقد تبنت الوثيقة التي نناقش، إعادة تعريف للعروبة، فاعتبرتها رابطة حضارية تقرب بين العرب (ألسنا منهم؟) لا مشروعاً سياسياً يباعد بينهم (أين هو هذا المشروع إلا في الأفكار أو الأحلام التي تنتظر من يحققها، طالما أنها تجمع ولا تفرق، وأنها ركيزة لمستقبل أفضل بالتضامن والتكافل وتوحيد المواقف، عبر الكيانات السياسية التي تحفظها وتحميها الإرادة الشعبية لا المصالح الأجنبية؟).
ولكي يكون لبنان «أكثر من بلد، انه رسالة حرية ونموذج للتعددية للشرق كما للغرب» فلا بد أن يكون موحداً وبهوية تعطيها أرضه وتاريخه، ولا تأتيه مستوردة أو مُعارة.
وليعذرني من صاغ هذه المذكرة إذا ما قلت أنني أفضل أن أكون - كوطني من لبنان - بين أصحاب القرار وليس كعامل، من الخارج، في خدمة محيطي المشرقي والعربي.
وقد يصل بي الغرور إلى حد القول إنني، بعروبتي، أساسي وثابت الوجود كابن شرعي لهذه الأرض العربية، ولمن شاء أن يضيف والمشرقية... ولست عابر سبيل، أو مقدم خدمات من الخارج.
إنني مواطن مثل أي منكم، أتشرف بوطنيتي وأحتمي بها، واعتز بعروبتي وأتقوى بها على أعداء هذه الأمة، فالعرب أهلي وان ضعفوا أو قصّروا أو تخاذلوا... وأرى أن ذلك كله من صنع أنظمتهم وعمى قياداتهم السياسية ورغبتها في احتكار السلطة والثروة والسلاح بعيداُ عن شعوبها، وعن هويتها الأصلية، وبالتالي عن أمتها.
ولقد عشت - وعشنا - أيام اعتزاز بهذه الهوية، حين تقدم الرواد من القادة العرب الصفوف في المنتديات الدولية وشاركوا في صنع القرار باعتباره حقهم وليس منة من المستعمر القديم او الامبريالي الجديد.
وفي ما يعنيني، فإن اعتزازي بعروبتي هو هو اعتزازي بهويتي اللبنانية، لأنني أرى لبنان درة هذا الوطن العربي وشهادة لأهله، العرب، باحترام خصائصه، وطليعة لهم بمعنى ما، في التقدم للحاق بالعصر يعتزون به ويغبطونه ويتبارون على حمايته إذا ما استطاعوا أن يقرروا...
أيها الأصدقاء،
من هذا المدخل اعرض للعنوان الذي طلب اليّ أن أتحدث فيه وهو «موقف لبنان من القضية الفلسطينية على ضوء مذكرة بكركي».
والموقف الرسمي معروف، لكن القضية تبدو هذه الأيام معرضة لخطر شديد يطال جوهرها وهو حق الفلسطينيين في أرضهم وفي دولة لهم قوة أرضهم.
وافترض أن المقصود الوصول إليه هو وضع الفلسطينيين في لبنان والمشكلات التي يثيرها او بالأحرى تثار من حوله بين الحين والآخر.
هل من الضروري التذكير أن لم يكن قراراً اتخذه الفلسطينيون لأنهم وجدوا لبنان أجمل من بلادهم! وفي حكايات أهلنا أن بعضهم كان يذهب إلى فلسطين العربية (قبل الاحتلال الإسرائيلي) ليعمل فيها، فإذا كان غنياً ليتملك فيها « بيارات» وعمارات في مدنها التي كانت سابقة على بيروت وأكثر ازدهاراً منها في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن الماضي.
على هذا أقول: إن الفلسطينيين الذين أجبروا على النزوح من بلادهم وجاء بعضهم إلى لبنان لم يأتوا مصطافين او سياحاً... وجميعنا بالتأكيد مع حقهم في العودة إلى أرضهم، ومع إنشاء دولة خاصة بهم على ترابهم الوطني...
وجميعناً بالتأكيد مع رفض لبنان أي شكل من أشكال التوطين على أرضه.
ولكن ماذا نفعل بانتظار أن يحين موعد قيام تلك الدولة؟
إننا نحاصرهم في مخيمات البؤس، نمنعهم من الحصول على فرص عمل شرعية مهما بلغ مستواهم التعليمي وكفاءاتهم المهنية .
وكل فلسطيني مشبوه حتى يثبت العكس.
ووفقاً لتقاليد نظرية «الغريب» فاللبناني ملاك مطهر، والأجنبي ضيف عزيز ومكرم، والعربي الغني مرغوب نبذل له الإغراءات والعروض السخية للقدوم والتملك والتمتع بخصائص لبنان الفريدة. أما العربي الفقير فشأنه شأن اللبناني الفقير متهم في دماثته وفي إخلاصه حتى يثبت العكس ونادراً ما يثبت.
الفلسطينيون بشر، وهم خطاؤون ككل البشر، لكنهم ليسوا أعظم أخطاء منا.
لقد نظم الاجتياح الإسرائيلي مجازر ضدهم في بعض المخيمات، حتى لا ننسى مجازر صبرا وشاتيلا، وشارك بعضنا في ارتكابها... ولم نفتح تحقيقاً، بل رفضت الدولة فتح تحقيق، ولولا بعض المنظمات الدولية وفي طليعتها منظمة براترند راسل الإنسانية لصارت المذبحة نسياً منسيا... والدولة متواطئة في طمس المذبحة ومن ارتكبها؟
ومن نافل القول إن اللبنانيين جميعاً ضد تجنيس الفلسطينيين، ولعل أكثرية الفلسطينيين لا يزالون متمسكين بجنسياتهم، ولو كلاجئين، لانهم يريدون ـ بل ويقاتلون - لكي يظلوا فلسطينيين.
فإذا لم نكن قادرين على مساعدتهم على العودة إلى ديارهم التي احتلها عدو غاشم ذقنا من اعتداءاته وحروبه علينا ما ذقنا حتى لا ننسى حربه علينا في تموز - آب 2006 وما قد نذوق في المستقبل، فلا أقل من أن نعاملهم كإخوة، بل كبشر، طالما أنكم مكرهون على البقاء حيث هم... في انتظار أية تأشيرة إلى أي بلد أجنبي، تخلصهم من واقع البؤس الذي يعيشونه داخل المخيمات وخارجها.
صحيح أنهم ليسوا سياحاً أو مصطافين، ولكنهم ليسوا بالمقابل طوابير من القتلة والسارقين والخارجين على القانون.
ولنساعد على توحيد الصف العربي حول حقهم في العودة، والوصول إلى هذا الحق... وفي انتظار ذلك، فلنرحم إنسانيتنا، قبل إخوتنا، بان لا نحاسبهم وكأنهم مصدر التهديد الدائم لكياننا الأبدي ونظامنا الفريد.
أيها الأصدقاء،
آسف للإطالة، ولكنني ـ كلبناني ـ انتهزت فرصة الحديث أمامكم، لكي اعرض بدوري هواجسي، إضافة إلى رأيي، ما دامت هذه الندوة مخصصة لمناقشة الهواجس والخوف على المستقبل.
مع تمني النجاح لهذا المنتدى الحواري الممتاز،
فإنني أتوجه بالشكر إلى من أعد هذه المذكرة الوطنية والى غبطة البطريرك الماروني بشاره بطرس الراعي الذي رعى هذه المبادرة الطيبة... عشية سفره إلى المباركة فلسطين، أسيرة الاحتلال الإسرائيلي الذي يمهد لدولة يهود العالم، غير هيّاب ولا وجل من اتهامه بالعنصرية التي ابتدعها واستثمرها لكيانه المستمر بقوة حرابه وليس حقه.