الهويّات المذهبية تهدّدنا جميعنا

الهويّات المذهبية تهدّدنا جميعنا

الهويّات المذهبية تهدّدنا جميعنا

 لبنان اليوم -

الهويّات المذهبية تهدّدنا جميعنا

علي الأمين

كلّ لبناني اليوم يتحسّس خطراً يتهدّده، هو الخطر الذي يلامس الوجود اللبناني بمعناه الوطني. هذا الاستنتاج تبرّره وقائع صارخة متمثلة في الخلل والتعطيل اللذين يصيبان المؤسسات الدستورية، وعلى رأسها العجز عن انتخاب رئيس للبلاد منذ أكثر من عام.

يرافق ذلك النزوع لدى جزء من القوى السياسية الفاعلة إلى تهميش الشراكة الوطنية ومتطلباتها الدستورية والاستراتيجية، لا سيما على مستوى الخيارات الكبرى. هذا التهميش لمتطلّبات "الشراكة" يتمّ عبر تقديم الهويات الدينية والمذهبية العابرة للحدود على حساب الهوية الوطنية وشروط الدولة فيها. ذلك أنّ انفجار الهويات المذهبية في المنطقة فتح الباب واسعاً أمام تبرير تجاوز الحدود، بما يوحي للكثيرين بأن الجامع الوطني اللبناني ووحدة الشعب وسيادته، ما عادت خيارات أساسية واستراتيجية أو مصيرية.

ورغم تقديم خيار الهويات الدينية على الهوية الوطنية، فإنّ ذلك لم يوفر الطمأنينة لحاملي الخيارات الفئوية. وقد أظهرت التجارب السابقة التي خبرتها الجماعات اللبنانية على اختلافها، خلال العقود القريبة الماضية، أنّ لبنان هو الكيان النهائي لها. فتقديم ارتباطها بالخارج على نظام المصالح الوطنية لم يعطها أكثر من دور المرتزقة تحت أمرة دولة خارجية. ليست هذه دعوة إلى التخلّي عن المشاعر أو الهوية الدينية والمذهبية، بل محاولة للقول إنّ هذه الهويات لا معنى حضارياً وإنسانياً لها إن لم تعزًز هويتنا الوطنية وتثبّتها. لأنّها إن لم تصبّ في مجرى الوطن والدولة فلا خيار أمامها إلا أن تغرق في هوية عائمة وعابرة للحدود لا تجد مستقراً لها في أيّ مكان.

بهذا المعنى فإنّ البدائل التي تطرح اليوم علينا كلبنانيين، خارج خيار الانتماء إلى لبنان والدولة، هي خيارات لا أفق حياة أو استقرار لها، بل هي أجزاء من مشاريع كيانات مذهبية متضادّة، واستبدادية بالضرورة. ففي مقابل الانتماء الوطني اللبناني، يتقدّم اليوم خيار تجاوز الحدود. هذا ما تقدّمه لنا دولة الخلافة في العراق والشام وشبيهاتها لدى دعاة بناء الدولة الدينية في المنطقة العربية.

إلى هذا النموذج ثمة تسلّل لدعوات الانزواء في أطر مذهبية وكيانات صافية، بذرائع الحماية والخوف، وهذا ما ليس قابلا للحياة أيضاً. ولأنّ التحدي اللبناني لم يزل قائما لجهة ضرورة قيام دولة المواطنة، فإنّ الصيغة اللبنانية التي طالما كانت تعاني من عوائق الانتقال بلبنان إلى الدولة المدنية، بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، وفّرت في الحدّ الأدنى حدوداً من شروط استمرارية الكيان والمؤسسات. لكنّها في هذه المرحلة أمام تحدّ وجودي، يطرح فكرة بقاء الكيان اللبناني او اندماجه في مسارات الأزمة السورية وتداعياتها.

في اعتقاد الكثيرين أنّ الجماعات اللبنانية، مهما بلغت من القوّة واغراء الخروج على قواعد الشراكة الوطنية، تكتشف أنّ الجغرافيا اللبنانية وكيانيتها تشكّلان الملاذ الوحيد لها. فالصيغة اللبنانية، التي تقدّم مساحة حريّة تعبير وخصوصية للمذاهب والطوائف، وتعطي فرصاً واسعة للحرية في هذا المجال، تنتج في الوقت نفسه أوهاماً. ولطالما قدّم لنا التاريخ اللبناني الحديث نماذج سياسية وطائفية وعسكرية توهمت أنّها أكبر من لبنان ومن مساحته ومن صيغته، وما لبثت أن انكفأت وبعضها انتهى.

الدولة بمفهومها الديمقراطي الحديث تبقى هي النموذج الأمثل الذي وصلت إليه البشرية كمجال تدار من خلاله الشعوب والمجتمعات، ولتنظيم الحياة السياسية بما هي حقل اختلاف. وتقام على أسس دستورية يجمع عليها المواطنون، ويسعون إلى تطويرها من ضمن الآليات الديمقراطية التي توفرها. سوى ذلك لم يقدم أحد نموذجاً أفضل. ولأنّ الدولة لم تزل مطلب الناس مهما اختلفوا في خياراتهم السياسية، فإنّ إدراك معنى الدولة، وشروطها وأسسها، يفرض الإقرار بأن لا شرعية لسلطة تتفوّق على سلطة الدولة. ولأنّها تعبّر من خلال مؤسساتها الدستورية والقانونية عن إرادة المواطنين باعتبارهم مصدر الشرعية، فلا شرعية لأيّ قرار يتجاوز هذه المؤسسات.

اللبنانيون اليوم، بمختلف فئاتهم، يدركون هذه الحقيقة وإن أغرتهم الصيغة اللبنانية بوهم الخروج عليها والاستقواء على شروط الشراكة الوطنية. فتاريخ الخروج على شروط الدولة والشراكة الوطنية يعيد نفسه، لكن بمهزلة في كلّ مرّة. ومهزلة تطفّل بعض اللبنانيين على هذه الشروط والشراكة ماثلة لمن يريد أن يرى.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الهويّات المذهبية تهدّدنا جميعنا الهويّات المذهبية تهدّدنا جميعنا



GMT 19:34 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ليس آيزنهاور

GMT 19:30 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

والآن الهزيمة!

GMT 19:28 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية تأخر قيام دولة فلسطينية

GMT 19:22 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

... عن «الممانعة» و«الممانعة المضادّة»!

GMT 19:19 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن... وأرخبيل ترمب القادم

GMT 19:17 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق ترامب؟!

GMT 19:14 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة رائعة وسارة!

GMT 18:02 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

الاحتفاء والاستحياء

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان - لبنان اليوم

GMT 07:17 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
 لبنان اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
 لبنان اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:38 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
 لبنان اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان
 لبنان اليوم - طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان

GMT 08:54 2022 الخميس ,02 حزيران / يونيو

جينيسيس تكشف عن G70" Shooting Brake" رسمياً

GMT 19:19 2021 الجمعة ,17 كانون الأول / ديسمبر

موضة حقائب بدرجات اللون البني الدافئة

GMT 21:00 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

أملاح يلتحق بمعسكر المنتخب ويعرض إصابته على الطاقم الطبي

GMT 21:13 2023 الخميس ,13 إبريل / نيسان

موضة الأحذية في فصل ربيع 2023

GMT 18:07 2022 الأربعاء ,01 حزيران / يونيو

ساعات أنيقة باللون الأزرق الداكن

GMT 21:12 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

آخر صيحات الصيف للنظارات الشمسية
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon