خلقته أمه لهذه اللحظة : عصفور يفرّ إلى ..الخطر. وخلقته قوانين اللعبة الى استثناء القاعدة: الكرة لأقدامهم في قانون الحركة؛ وليديه في قانون اخماد الحركة.
.. وللكرة كل هذا الدلال المشين في التقلب السريع، والانتقال من حلال أقدام اللاعبين (يسرى ويمنى) الى حلال أصابع كفيه العشر. لا يضرب اللاعب الكرة بقدمين اثنتين؛ ولا يمسك حارس المرمى الكرة بأصابع يد واحدة.. قد يركلها بقبضة يد واحدة لينعطف الخطر عن حياضه، لكن لا تنفجر حناجر المشاهدين كما عندما تفرض اصابع حارس المرمى العشر قانون السكون على كرة خلقت لقانون الحركة.
هناك علاقة تعاطف سرية بين الكاتب وحارس المرمى، ولعلها كالتالي: إن ثلاث أصابع تمسك بالقلم .. أو ان اصبعين تساعدان الابهام في الامساك بالقلم. اما حارس المرمى فإن ثماني اصابع تساعد ابهامين للامساك بالكرة من جنون الحركة وتطويعها الى حكمة الاستقرار في لحظة خاطفة، تكفي لتدور اللعبة دورة جديدة.
للاعب في الفريق ان يدور حول الكرة التي تدور، فتراه مقبلا ومدبرا، ومن الجانب الايمن والجانب الايسر. اما حارس المرمى فكأنه حركة القمر حول الارض، لا ترى الا جانبه المضيء.
قلما تتخطى حركته صندوق الملعب.. حيث الغلطة البسيطة تتحول عقوبتها من حكم الجنحة الى حكم الجناية، ويصدر الحكَم حكمه في لحظة واحدة: ضربة جزاء. آنذاك، يا للقهر الحقيقي والمفتعل، ويا للفرح الحقيقي او المفتعل.
ضربة الجزاء أشبه بحقل رماية على محكوم بالاعدام يراه الكلّ .. ولا يرى هو سوى شيء واحد: قذيفة قاتلة عليه ان «يقتل» حركتها، ويعقل جنون اندفاعها، وان يفر من «الخطر» المقبل لا كما تفر العصافير، بل كما يهجم الاسد الغاضب. طلقة الاعدام قاتلة من مسافة 9 أمتار (11 ياردة)، وقذيفة الكرة شبه قاتلة من هذه المسافة .. والفارق؟ ان طلقات الاعدام تتبعها طلقة الرحمة او الاجهاز، وأما قذيفة الجزاء، فهي تحيي انفجار الفرح هنا، وانفجار القهر هناك.. على ملعب واحد، ومدرجات ملعب واحد .. والكل أطفال بعد الهدف بقليل.
لكرة القدم جمال صراع قانون القاعدة مع قانون الاستثناء. ولها، ايضا، هذا «الاله الداخلي» في الصدور.
الحماسة هي هذا الإله ( كما قال اندريه مالرو) الذي يضيء وجه اللاعب .. دون اية «رتوش» من تصنع الكذب، حيث الفرح شعور صرف كالفرح، والغضب شعور صريح كالغضب، والاسى يكوي كالأسى .. دون مجاملة. الكل رجال في اللعب، ولا أحد يعفّ عن خدع الاطفال المعتادة : الغش الصريح والغش المخفي .. ولصفارة الحكم ان تقول كلمتها فاصلة، فتأتي مع العدالة غالبا، ومع الهوى احياناً نادرة.. ولا يستطيع الحكم ان يرى كل شيء، وعليه ان يحسم في كل شيء. لا غنى عنه ان عدل وان مال مع الهوى.
في كرة القدم لا يتعلمون فنون الدراما كما على المسرح. لا يتعلمون فنون الالقاء، ولا قواعد الرقص. مع ذلك يجيدون دراما انفعال الفرح، وكما الاطفال يرتمون على الارض يدقون قهرهم بقبضات ايديهم فيجيدون دراما الحزن، وكما الجرحى يتلوون من الألم.. ويبصقون لعابهم مثلما يحلو لهم ان يفعلوا، ويؤدون الرقصة في منتهى الرشاقة غالباً، وقد تخذلهم في اللحظة الحرجة الكرة الطائشة او ربلات سيقانهم، او كاحل قدمهم. او يترددون بين ركل الكرة بقدمهم او برؤوسهم.. او يغارون عليها غيرة قاتلة من زملائهم. بماذا يصفون الانسان العصامي الناجح؟
يقولون : يقف على أرض ثابتة! او يقولون: يقف على قدمين راسختين .. واما على ملعب الكرة، فإن الاداء الناجح هو العلاقة المتكاملة بين الحركة والسكون.. كما هي بالضبط هذه الكرة التي تذهب في كل اتجاه يشاء اللاعب، وفي اللحظة الحرجة تذهب الى حيث تشاء قوانين الحركة الطبيعية (تحريك ساكن أصعب من تسكين متحرك).
ها هنا يكمن جمال خاص للعبة كرة القدم: حوار بين قواعد الحركة الطبيعية وبين قواعد اللعبة.. وكل فريق يحاول تسخير قوانين الحركة الطبيعية لتكون حليفة وفي الاتجاه الذي يريده: قفص يعلو سطح الملعب 212 سم ويمتد 350 سم .. وحارس مرمى عليه ان يكون مع قوانين اللعبة وضد مجرى اللعب من المرمى الى المرمى.
خلقته أمه لهذه اللحظة الحرجة بين دلال الكرة وعنفوان اللاعب، وهوس الجمهور .. وصفارة الحكم. انه حارس المرمى. وقانونه: الواحد للكل في لعبة قانونها الكل للواحد.
انه حامل الرقم «واحد» غالباً .. او الرقم 22 احيانا.