يقولون: «الطيور على أشكالها تقع»، فدعونا ممّا هو معروف ومطروق من اختلاف أشكال النظم والدول: ديمقراطية واستبدادية، أو جمهورية وملكية (وإمارات وسلطنات).. فللجميع حكومات؛ شمولية إن كانت حكومة الحزب الواحد أو القائد ولها برلمانها بمسميات مختلفة)، أو حكومة الحزبين (ولها برلمانها بمسميات مختلفة)، أو حكومات الائتلافات الحزبية (ولها برلمانها بمسميات مختلفة).
أساس الديمقراطية هو «تداول الحكم» عَبر صناديق الاقتراع، ووفقاً لنتيجة الانتخابات تتشكل الحكومات.. فهيّا إلى مفارقات راهنة في ثلاثة أشكال من الحكومات في ثلاث من الدول الإقليمية المتجاورة: في لبنان، وإسرائيل.. وفلسطين، علماً أن الدولتين الأوليين ذات نظام حكم برلماني.. والثالثة ذات نظام حكم رئاسي ـ برلماني.
في لبنان، بعد قرابة تسعة شهور من استعصاء تشكيل حكومة، شكّل سعد الحريري، نجل المغدور رفيق، حكومة من 29 حقيبة وزارية (وللمرة الأولى حصلت النساء على أربع حقائب).
سؤال: ما حاجة بلد صغير إلى حكومة كبيرة؟ الجواب: ان في لبنان 16 طائفة (صارت 18) فهي، إذاً، حكومة الطوائف، مع بقاء رئاسة الجمهورية للطائفة المسيحية المارونية، ورئاسة الحكومة للطائفة الإسلامية السنّية، ورئاسة البرلمان للطائفة الإسلامية الشيعية، وهي صارت الأكبر عدداً.
لماذا تأخّر تشكيل الحكومة الجديدة من أيار إلى كانون الثاني؟ لأن حزب الله تحالف مع بعض الموارنة، وبعض السنّة، فطالب بحصة وزارية أكبر، بما فيها حقيبة الصحّة، وحصّتها من الميزانية رابع الحصص.
من التحاصص الطوائفي إلى معناه السياسي، حيث أن الجناح الماروني المقرّب من رئيس الجمهورية، وستة نواب سنّيين مقرّبين من الحزب، يعني أن المؤيدين لسورية وإيران انتصروا، بذلك تم إغلاق قضية مقتل رفيق الحريري، المتهم فيها مقرّبون من حزب الله وسورية، لكن ليس قضية «اختفاء» الإمام الشيعي موسى الصدر في ليبيا إبّان حكم العقيد القذافي.
المهمّ، تأليف الحكومة الجديدة، انفتح الطريق أمام لبنان للحصول على منح وقروض لدعم اقتصاده المتهالك.
فإلى حكومات إسرائيل، وهي حكومات أحزاب (مع جذر طائفي صار يقلّ، وجذر ديني صار يزداد، وكذلك جذر عسكري صار يزداد). في المحصّلة أن الانقلاب اليميني منذ العام 1977 بقيادة مناحيم بيغن، وبه انتهى شعار بن غوريون (حكومة بدون «راكاح» و»حيروت») إلى حكومة ليكود يميني متحالف مع يمين متطرف، في حكومة نتنياهو الرابعة، إلى احتمال حكومة خامسة بعد انتخابات نيسان مع حزب جنرالات جديد، من يمين الوسط، تقول الاستطلاعات إنه سيكون الحزب الثاني بعد الليكود في عدد المقاعد. هذا ليس انقلاباً على غرار انقلاب 1977، بل حركة تصحيحية في مسار حكم أحزاب اليمين.
ما الذي يخافه نتنياهو؟ ليس أن يصبح حزب الجنرالات هو الأكبر، بل أن يكلّف رئيس الدولة الائتلاف الحزبي الأكبر بتشكيل الحكومة، إذا تمكن رئيس حزب الجنرالات، بني غانتس، من التحالف مع أحزاب يمينية معتدلة.
فإلى فلسطين، حيث لا طوائف تطالب بحصص، ولا أحزاب، بل فصائل وحركات تنوس بين حصصها في ديمقراطية الائتلافات والخلافات الفصائلية في زمن ديمقراطية (م.ت.ف)، وبين حصصها في ديمقراطية الانتخابات البرلمانية.
تاريخياً، كانت حركة «فتح» هي الحزب القائد في ديمقراطية (م.ت.ف)، وفي حكومات السلطة حتى «الانقلاب» في العام 2007، بعد فوز «حماس» المفاجئ في انتخابات 2006.
أساس المشكلة في تأليف حكومات السلطة منذ ذلك العام، أن الشعب انتخب رئيساً فتحاوياً في العام 2005، ثم انتخب برلماناً بغالبية «حمساوية» في العام التالي. بين شرعية انتخاب الرئاسة وشرعية انتخاب البرلمان، وقعت الديمقراطية الفلسطينية بين شقّي حجري الرحى، أو بين شدقي الصدع.
كانت ديمقراطية «فتح» أن تقود حكومات وحدة وطنية ـ فصائلية في اطار (م.ت.ف)، وحتى البرلمان التأسيسي الأوّل ذي الغالبية الفتحاوية. منذ الانقلاب 2007 ونحن في دوّامة حكومات ذات مسمّيات: وحدة وطنية. حكومة خبراء وتكنوقراط. حكومة وفاق. حكومة توافق.. والآن، حكومة سياسية ـ فصائلية مع مستقلين، مع انتخابات ثالثة تشمل غزة، والقدس، والضفة الغربية. كيف؟ هذه هي المسألة الكؤود: لماذا؟
في ديمقراطية حكومات طوائفية لبنانية بعد الحرب الأهلية 1975، انشقّ الشعب والجيش والحكومة.. ولكن لم ينشقّ البرلمان. في ديمقراطية أحزاب إسرائيلية كثرت الانشقاقات الحزبية، وتعدّدت ائتلافات حزبية، وبقي البرلمان (الكنيست) واحداً، والجيش واحداً، وأحزاب الجنرالات والفقاعات الحزبية تعدّدت، وإن انشقّ الشعب ديمقراطياً في خياراته الانتخابية، وتشكّلت حكومات ائتلافية دائماً، مع حزب أكبر.
ماذا عن حكومات عربية وإقليمية أخرى؟ في العراق انتهى حكم الحزب الواحد بعد سقوط حكم البعث، وبدأت حقبة حكومات برلمانية ذات جذر طوائفي وميليشيات عسكرية. في ليبيا انتهى حكم القذافي الذي قال: «من تحزّب فقد خان» وبدأ حكم حكومات متنافسة ـ متناحرة. في مصر عادت الحكومات إلى «ديمقراطية العسكر»!
الملكيات العربية والسلطنات والإمارات، غير الملكيات الدستورية الأوروبية، وكذا برلماناتها غير. ديمقراطية الإمام الفقيه الإيرانية يوجد فيها انتخابات وتداول الحكومات ولكن تحت عمامة الإمام الفقيه. في تركيا تمّ الانتقال من ديمقراطية أحزاب علمانية إلى حكومات عسكرية، إلى حكومات إسلامية متنافسة مع أحزاب علمانية.
في تونس وحدها يمكن أن تجد ديمقراطية برلمانية عربية قطباها «النهضة» الإسلامية، و»نداء تونس» العلمانية.
«كما أنتم يُولّى عليكم»؟!