يومياً، في كهولتي، أتناول حبّة «أوميغا ـ 3»، فأتذكر طفولتي وجرعة زيت السمك في مطعم «الأونروا». كانت، بداية، جرعة ملعقة ساخنة، تليها حفنة صغيرة من الزبيب الصغير. ثم إلى صحن في مطعم الوكالة، ثم صارت حبّة في الفم، كان بعض الأولاد يلفظونها لاحقاً.
الملعقة/ الحبّة شرط لصحن الطعام، وشرطهما معاً ميزان يقيس العمر والوزن، ويفرز من يستحق زيت السمك وصحن المطعم. بعض الأولاد كانوا «يشفطون» بطونهم ووجباتهم كخدعة طفولية لا تخدع الميزان. لكن الحليب والطبابة والمدرسة حق لجميع اللاجئين المسجّلين.
أذكر مشاوير الصباح المبكّر اليومية، صيفاً وشتاءً، قبل المدرسة، حاملاً سطلاً لفتّة الإفطار: حليب وخبز. وكان الحليب على نوعين: للكبار والأطفال. أذكر المشاوير الشهرية مع والدي لتلقّي مؤونة الإعاشة، التي نحملها من مركز التوزيع إلى بيوتنا على متن «كراجة» يجرّها إنسان أو حمار!
دار الزمان دورته، وتلقّيت في قبرص، بعد خروج بيروت، رسالة من مدير عام «الأونروا» في حينه، لتزويده بصورة نشرتها «فلسطين الثورة» عن لقاء يجمعه مع الرئيس عرفات.
نعرف أن أطفال النكبة هم الذين فجّروا ثورة 1965، وليس مهمّاً إن كان مدير عام «الأونروا» يعرف أنه يوجه رسالته إلى رجل كان طفلاً، وفي دمه «حليب الوكالة» الذي يسري في دماء الفدائيين.
دار الزمان دورته، واعتمدت اليونسكو، نهائياً ودون تصويت، قرارها الذي يؤكد إسلامية المسجد الأقصى، وأبرزت «الأيام» صورة الفلسطيني المسيحي، سفير فلسطين لدى «اليونسكو»، إلياس صنبر، يتحدث بعد اعتماد قرار «اليونسكو» نهائياً.
قبل ذلك، وفي العام 2009، أدرجت «اليونسكو» أرشيف «الأونروا» في سجل تاريخ «ذاكرة العالم»، كما أدرجت القدس جزءاً من «التراث العالمي»، وقبلت عضوية فلسطين مراقباً، ثم دولة عضوا.
هناك مفوضية عامة للاجئين تابعة للجمعية العامة، لكن ليس هناك وكالة لاجئين، قائمة ومستمرة، مثل «الأونروا» التي ولدت من بطن عام النكبة، وتشكّلت رسمياً في العام 1949.
كانت «الأونروا» مسؤولة عن إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الـ860 ألفاً طُردوا من ديارهم (غير الذين بقوا في دولة إسرائيل). هذا يعني أن النكبة حطّمت العمود الفقري للسواد الأعظم من الشعب الفلسطيني آنذاك.
الآن، صار عدد اللاجئين المسجّلين في «الأونروا» 4.6 مليون، وتغيرت أولويات الوكالة من الإغاثة إلى التشغيل والتعليم في مدارسها ووظائفها، وإلى الطبابة، وأيضاً، إقامة مراكز التدريب المهني، وصار لها مراكز رئيسية في فيينا، وعمّان.. وأخيراً غزة بعد قيام السلطة بفضل جهود ياسر عرفات.
في طفولتي أمضيت عامين في دوما ومدرسة «ترشيحا» للأونروا، ثم أكملت في مدارس الدولة السورية. شقيقتي أنهت خدمة كاملة في مدرسة «ترشيحا» بمخيم اليرموك، وكذلك ابنة أختي الكبيرة.. رحمهما الله.
حتى عندما كنتُ طالباً جامعياً، فكّرت في الانخراط بمعهد تدريب مهني للأونروا في سورية، فرشّحني المدير لتعلُّم طبوغرافية رسم الخرائط، وليس مهنة النجارة على الخشب، فرفضت وطويت الفكرة، وانتهيت إلى «نجر الكتابة».
كثيرة هي مشاكل العمل بين مطالب اللاجئين وميزانية الوكالة. إذ قال الشاعر السيّاب «لم يمرّ على العراق عام دون جوع» فلم يمر على الوكالة عام دون مشاكل في ميزانية الوكالة ونشاطاتها.
في عام صدور قرار اليونسكو حول المسجد الأقصى، يشكو مدير عملياتها في غزة من عجز في الميزانية مقداره 70 مليون دولار. لكن في العام ذاته، افتتحت في غزة أرشيفاً سمعياً ـ بصرياً يُوثّق لتاريخ اللجوء من النكبة إلى النكسة، وهو قبل إنجازه في معرض، اعتبرته «اليونسكو» في سجلها لتاريخ ذاكرة العالم. يحوي المعرض 450 الف صورة، و80 الف شريحة، و75 فيلما، و730 شريط فيديو، سيتم تجميعها الكترونياً في المعهد الفرنسي للسمعيات والبصريات، وهو لعلّه المعهد الذي تولّى «ترميم» التراث السينمائي العالمي القديم، وتحويل أفلامه من الأبيض ـ أسود إلى مُلوّن.
يمكن القول، إذاً، إن «الأونروا» كانت بمثابة الأم المرضعة للشعب الفلسطيني اللاجئ، وأن المنظمة هي بمثابة الأب. الآن، صار للوكالة مقر رئيسي في غزة، وصار المقر الرئيسي للمنظمة في أرض البلاد.
مع تركيز الوكالة على التعليم والتشغيل والطبابة، لكن ظروف الفلسطينيين في الشتات والبلاد، ترغم الوكالة على المساهمة في خدمات الإيواء بعد حروب غزة، والحروب في الشتات على المخيمات.
يقول درويش: «الأرض تورّث كاللغة» وإلى أن تجد قضية اللاجئين حلاً لها، ستبقى «الأونروا» تحمل مع الشعب إرث اللجوء والنكبة.
بدأ العمل في أرشيف «الأونروا» عام 2009، أي في العام الذي قررت فيه «اليونسكو» إدراج الأرشيف جزءاً من تاريخ العالم وشعوبه وذاكرته. الآن، أتمّت «الأونروا» رقمنة مواد الأرشيف، وإقامة منصة الكترونية له.
قرار اليونسكو يشكل جزءاً من «صراع الرواية» وأرشيف «الأونروا» يشكل جزءاً من الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني.
«بين مزدوجين»
لعلّ النكبة بدأت منذ قررت حكومة الانتداب على فلسطين إدراج حرفي (أ. إ) بالعبرية أي «أرض إسرائيل» على جوازات السفر والعملة الفلسطينية ولكن بين قوسين.
الآن، في قرار «اليونسكو» هناك المسجد الأقصى وأما «جبل الهيكل» فهو بين مزدوجين.
أما في قرار تقسيم فلسطين للجمعية العامة فقد فاز بغالبية صوت واحد لدولة في أميركا اللاتينية، وفي قرار «اليونسكو» الجديد فشلت إسرائيل في نقضه، سوى انسحاب المكسيك من الدول الـ24 التي وافقت عليه، وتم تبنّيه دون تصويت.
مفارقة
لما تنازعت امرأتان طفلاً، حكم سليمان الحكيم، في الأسطورة، باقتسامه.. فرفضت الأم الحقيقية وتنازلت عن الطفل للأم المدعية.
في بداية مشروع التقسيم، رفضت الأم الحقيقية لفلسطين المشروع، لكن إسرائيل هي التي ترفض الآن تقسيم أرض البلاد، وأيضاً، القدس عاصمة دولتين.
يشكل قرار اليونسكو بإسلامية المسجد الأقصى سور حماية معنوية دولية من نوايا إقامة الهيكل على أنقاضه. لم يعد العالم يتقبّل هدم معابد مقدّسة لديانة لإقامة معابد مقدّسة لديانات أُخرى.