حلقة حول حفرة. تتجدد الحلقة (من بلد إلى بلد؛ ومن مقبرة إلى مقبرة) وتظل من دون «ال» التحديد. أنت في حلقة حول قبر آخر في مقبرة البيرة.
كنتَ في حلقة حول قبر في تلك «المقبرة المركزية» ببيروت الغربية، وكنتَ في حلقة حول حفرة مقبرة فرعية في حمام الشط.
.. وذات موت آخر لنفر آخر من «فصيل الإعلام» سرتَ في موكب سيارات مسافة طولها سبعون كيلومتراً، لأن نفراً سبقك من الفصيل ذاته، تلزمه حفرة في مقبرة المسلمين في لارنكا القبرصية. وصلنا لارنكا من بيروت بحراً، وغادرنا لارنكا إلى جوار فلسطين جواً. بين وصول ومغادرة تركنا عنصرين آخرين من فصيل الإعلام في حفرتين.
مات الذي أعطته أمه وأبوه اسم «سالم السعدي»، ودفنا رفيق الفصيل الذي أعطيناه اسم «سامي بشير».
في العراق، حيث ولد في العام 1952 يتقبل ذووه التعازي في ما كان الفتى سامي. وفي رام الله يتقبل رفاق دربه التعازي في الكهل سامي.
.. صارت الحفرة معرّفة: هذا قبر سالم «سامي» انضم إلى فصيل الإعلام الموحد في العام 1972، وغادر الفصيل إلى دار البقاء في العام 1999.
كم تحلّق سامي في حلقة بيروتية تتوسطها حفرة رفيق، وألقى نظرة أخيرة إلى وجه أغمضت جفونه، حتى لا يرى الرفيق الحيّ نظرة لم يرها في عيني رفيق الدرب .. غير: الحزن، الغضب، الفرح .. والألم. نظرة سؤال لا جواب عنه.
حلقة هي الحلقة التي تتجدد من بلد إلى بلد. ها قد وصلنا إلى البلد، وبدأنا زمن الموت موتاً عادياً.
يذوي واحد من الحلقة إلى تلك الحفرة .. وفي زمن الموت غير العادي كان يهوي: «بالأحمر كفناه».
شارب سامي وعيناه علامتاه من منفى إلى منفى؛ وللزمن أن يبدأ حراثة حفرة الموت بدءا من شعر الرأس الذي يتقهقر عاماً فعاماً؛ وفيه يزرع الأبيض راية النهاية المبكرة.
أول البلدان فلسطين؛ وآخر البلدان فلسطين. أول الطريق فلسطين؛ وآخر الطريق فلسطين.. وحلقة الفصيل حول الحفرة تضيق وتضيق .. ولكنها لا تزال تكفي ليتذكرك رفاقك في جيش المسيرة، وفي كتيبة الإعلام، وفي فصيل الإعلام الموحد، فيمنحوك جنازة نصف عسكرية، ويلفوا جثمانك بالعلم الفلسطيني.
كان «خالد العراقي» عراقي المولد، وكان فلسطينياً في المسيرة. ومثل سامي تزوج فلسطينية .. غير أن نائب رئيس تحرير «فلسطين الثورة» خالد العراقي (عادل وصفي) وجد قاتلاً سياسياً يضغط زناد مسدس مكتوم الصوت على صدغه.
وقف «خالد العراقي»، قبل موته، في حلقة حول حفرة وارينا فيها السوري طلال رحمة (صارت الحفرة معرفة قبراً)، ووقف في حلقة لاحقة حول حفرة وارينا فيها الفلسطيني - عراقي المولد رشاد عبد الحافظ، الذي سقط في خندق القتال برصاصة بين عينيه.. فصارت الحفرة قبراً معرفاً.
جثث سرية كاملة من فصيل الإعلام تحلقت حول حفرات معرفة. ثم، من لم يمت برصاصة قاتل مخابرات عربية، (خالد العراقي) أو برصاصة مقاتل كتائبي (رشاد عبد الحافظ) صوّب السرطان سبابته إلى رأسه.. وقال: اترك الحلقة وانزل الحفرة. ما زالت في الفصيل بقية من الرفاق ليتحلقوا حولك. قل: وداعاً.
كان الطريق طويلاً، بما يكفي لتحضر عرس حامل القلم (والبندقية أحياناً) في فصيل الإعلام، وأحيانا عرس ابنه .. ونادراً ولادة حفيد الرفيق.
.. وكان الطريق دامياً: مئة موت استثنائي في المنفى، مئة حلقة حول مئة حفرة، حتى تعود إلى أول البلاد، وآخر الطريق .. موتاً عادياً. الحلقة حلقة. حفرة هي الحفرة، لكن، الموت يصير عادياً، وتبقى من مراسيم الموت الاستثنائي عربة عسكرية (كان الجنود في المنفى أنفاراً وكانوا شباباً؛ فصار الجنود ضباطاً، وصاروا كهولاً».. وأيضاً هذا العلم: من المهد إلى اللحد.
المسافة قصيرة من جامع البيرة إلى مقبرة البيرة (الحياة قصيرة) والمسافة طويلة من العراق إلى لبنان فتونس .. ففلسطين أخيراً (النضال طويل).
كنا نقول، متحلقين حول حفرة ستصير معرفة قبراً، «العهد هو العهد». ماذا نقول متحلقين حول حفرة معرّفة جديدة: «إنا لله وإنا إليه راجعون».. وفي سويداء القلب عهد غير معلن، بأن يتحلق ما تبقى من رجال الفصيل حول حفرة من يذوي من رجال الفصيل:
«بالأمس كنت مثلك / وغداً تكون مثلي» حكمة الموت على شاهدة قبر. وعلى بعض القبور إشارة إلى مكان الولادة - بعيداً غرباً قرب الساحل الأزرق.
الساحل هو خط النهاية. وعندما نهش السرطان رأس سكرتير التحرير طلال همداني اللبناني في نيقوسيا، ودعته: «الروح حصباء على خط انكسار الموج».
الموج يبقى، والحصباء مرحلة من الصخر إلى .. الرمال.
حفرة ما غير معرّفة، تنتظرك أنت لتصبح معرّفة: هذا قبر الرجل الأخير في فصيل الإعلام الموحد. لا يوجد في الحلقة أول أو آخِر!