بقلم : حسن البطل
ختير أيار النكبوي في عامه الـ 72، وأنا ختيرت كمان في عامي الـ 76، فلماذا خصّصت من الأيارات أن أُعنون مقالتي بأيار 1998، وأيار 2020؟في التذكارية النكبوية السنوية لأيار 1998، كان حشد عظيم في ساحة المنارة برام الله. تحت السروات الستّ، وقف خطيباً القائد العام أبو عمّار على المنصّة، وإلى جانبه الشاعر العام محمود درويش. كان ذلك قبل عام واحد من انقضاء السنوات الخمس لبدء مفاوضات الوضع النهائي الأوسلوي للعام 1994.أعلام البلاد رباعية الألوان، ورايات سود لنكبة البلاد وشعبها، ولافتات لا حصر لها حول المدن والقرى المهجّرة والمدمّرة في أيار النكبوي الأول.
من مهرجان حاشد للشعب وقيادة السلطة والمنظمة، حيث كان عمر النكبة نصف قرن، تذكّرت أن الحبيب بورقيبة وقف تحت السروات الستّ في ذات الساحة، وألقى خطاب الدولة الفلسطينية، وسط استهجان الجمهور الذي انتظر من رئيس تونس خطاب العودة.خطاب عرفات الوحيد في جماهير حاشدة بالساحة ذاتها، كان عن الدولة التي صارت على مرمى حجر. قبل انتهاء المهرجان سافرت إلى حيفا، حيث كان احتفال رعته بلدية يترأسها عميرام متسناع، لتصادف أعياد ومناسبات سياسية ودينية، تحت شعار: عيد كل الأعياد (هاغا ـ شل ـ هاغاييم).
في 15 أيار 2020 كانت «الست كورونا» تحتل العالم، وأمّا النكبة فقد احتلت «الفيسبوك» وأضرابه، ولم يكن حشد في «المنارة»، بل احتشاد في جولات الواقع الافتراضي، بدل المسيرات.شاركت يافا في «الجولة الرقمية» انطلاقاً من الميناء التاريخي فيها، وساهم الآلاف في هذه الجولة، فتذكّرت معلومتين فلسطينية وإسرائيلية، الأولى من «الفيسبوك»، وفيها أن يافا «المدينة والقضاء»، كانت تحوي ثلث سكان فلسطين قبل النكبة. صحيح أم لا؟ غير مهم فالمدينة كانت «عروس فلسطين» الثقافية والصحافية والاقتصادية.
في النشرة الجوية لمحطة «فرانس 24»، عرفت أن مساحة تل أبيب وفضاءها الآن، هي 1620 كم، وأن عديد سكانها يشكلون نصف سكان إسرائيل، أي 3 ملايين وستمائة ألف. لماذا اختارت الصهيونية يافا بالذات لبناء مدينة تل أبيب؟ هذا سؤال من أسئلة «الإزاحة» غير الأرخميديسية للديمغرافيا اليهودية.الإزاحة الديمغرافية اليهودية، منذ أيار الأول النكبوي، حتى حزيران الأول النكسوي، فإلى خطة ترامب، وفرض السيادة، أي الضمّ، هدفها جعل فلسطين السلطوية مثل بندقة بين الأغوار والكتل الاستيطانية.
من ثم، فقد تراجع مشروع «حل الدولتين» في اهتمام الذكريات الشخصية والإبداعية «الفيسبوكية»، إلى خطاب العودة، خلاف خطاب التذكارية السنوية الأيارية النكبوية، بمناسبة نصف قرن على النكبة.في خطاب الحنين إلى العودة، وإلى حل الدولة الواحدة، فيه ما فيه من الشعاراتية والطوباوية، وقدر من جَلد الذات الفلسطينية، الذي هو هواية فلسطينية مزمنة ومفضّلة، مخلوطة بالرومانسية والإبداعية الكتابية «الفيسبوكية» وأضرابها.نبّهت صديقاً نكبوياً مقيماً في السويد، كان طفلاً في النكبة الأولى، وصار جَدّاً في سنويتها الـ 72، أنه استخدم في كتابته الإبداعية نعتاً عنصرياً لليهود فقام بحذف هذه العبارة.
أحد المدوّنين كتب أن نتنياهو دعا إلى احتفال ببلوغ والده المؤرخ التوراتي بن تسيون عمر القرن، وأن الوالد قال: «مادام الفلسطينيون لا ينسون النكبة، فإن مستقبل إسرائيل يظلّ في خطر».تغيّر العالم قاطبة، والعالم العربي بخاصة، والسلطة الفلسطينية عمّا كان عليه أيار النكبوي 1998، إلى الأسوأ كما إلى الأحسن. كان مؤسّس إسرائيل، دافيد بن غوريون، الذي يريد نتنياهو أن يكون مؤسّس دولة «أرض ـ إسرائيل»، قد قال: إن عماد بقاء إسرائيل ثلاثة: قوة جيشها، ديمقراطيتها، وعلاقتها الخاصة بالولايات المتحدة». جيشها صار أقوى عمّا كان عليه، وعلاقتها أوثق بالإدارة الأميركية الحالية.. لكن ديمقراطيتها أصيبت في صميمها، فهي تقول إن حق تقرير المصير لها وحدها، في أرض فلسطين ذات الشعبين.
هناك من يحذّر من نكبة تموزية ثالثة، بعد نكبة العام 1948 ونكسة العام 1967، الأولى شهدت التهجير الكبير، والثانية التهجير الصغير.لكن، مع ذلك، ففي أيار 1998 لم تكن السلطة عضواً مراقباً في الأمم المتحدة، ولم تكن الشرعية الدولية مع «حل الدولتين»، ولم يكن المصير الفلسطيني نحو الاستقلال، ومسار إسرائيل نحو إلغاء فلسطين مترابطين مثلما هي الحال في أيار 2020.ختيرت النكبة، لكن شعبها صار أكثر شباباً وعدداً، وشعار مائير: «الكبار يموتون، والصغار ينسون لم يتحقّق».
الاستقلال حق للشعوب، والعودة حق للشعب المنكوب، لكنه، أولاً، حق الشعب الفلسطيني في إسرائيل، بالعودة إلى مدنه وقراه المهجورة والمدمّرة شرطاً لديمقراطية دولة إسرائيل.الفلسطينيون يختلفون حول «الدولتين» و»الدولة الواحدة»، والإسرائيليون يختلفون حول «الدولة اليهودية الديمقراطية»، أو»دولة الفصل العنصري».هل في الغيب كيف سيكون الحال في العام 2048، أي بعد قرن على النكبة. على يافطات نكبوية مدن وقرى فلسطين مع عبارة «سنعود يوماً»، وعلّقت على واحدة: «في يوم كان مقداره مائة عام ممّا تعدُّون».