لدي أسبابي المركبة، شخصية وعامة، لقراءة مذكرات فاروق الشرع، وزير الخارجية السورية، منذ العام ١٩٨٤ في حقبة الرئيس حافظ الاسد، ونائب نجله بشار الأسد.
الأسد الكبير جعل بلاده لاعباً اقليمياً بعد أن كانت لعبة، والأسد الصغير انتهى ببلاده، منذ العام ٢٠١١، الى ملعب اقليمي ودولي.
يكبرني الشرع بست سنوات (هو مواليد درعا ١٩٣٨) ويوصف بأنه «خريج مدرسة حافظ الاسد" ولعلني قد أوصف بخريج مدرسة ياسر عرفات.
العام ٢٠٠٠ كان حاسماً في حياتَي الأسد وعرفات. الاول مات في حزيران ٢٠٠٠ بعد خيبته من مصير «وديعة رابين» إبان رئاسة ايهود باراك للحكومة الاسرائيلية، والثاني مات في تشرين الثاني ٢٠٠٤ بعد خيبته من مفاوضات كامب ديفيد ٢٠٠٠ مع ايهود باراك، التي أدت الى انتفاضة ثانية انتهت بموته.
الرئيس بيل كلينتون كان من عمل لتطوير اوسلو الى سلام فلسطيني - اسرائيلي، وتطوير «وديعة رابين» الى سلام سوري - اسرائيلي، وفشل في هذا وذاك.
الفارق بين مفاوضات اوسلو ومفاوضات وديعة رابين، أن الاولى ذات مراجع وروايات اسرائيلية وفلسطينية ودولية، لكن شهادة فاروق الشرع هي اول رواية سورية لما جرى منذ لقاء الأسد - كلينتون في جنيف ١٩٩٤ للبحث في «وديعة» في جيب الأول، الى لقائهما الأخير في حزيران ٢٠٠٠.
في اللقاء الأخير، فوجئ الأسد أن باراك يريد رسم «خط» الرابع من حزيران ١٩٦٧ في الجولان، بعيدا ٤٠٠ - ٥٠٠م عن شواطئ بحيرة طبريا، بينما كان النقاش قبلها حول مطلب اسرائيل بطريق دائري حول البحيرة لا يزيد عرضه على ١٠ أمتار.
في العام ١٩٦٧ كان السوريون على شواطئ البحيرة الشرقية لكن في العام ٢٠٠٠، تراجعت مساحة البحيرة، فأين هو «الخط» أي «الحدود» الجديدة؟
سنعود الى شعار حافظ الأسد، بعد خروج مصر ومعاهدة كامب ديفيد ١٩٧٩، من «التوازن الاستراتيجي» ولا تستطيع سورية تحقيق التوازن العسكري، فحاولت التوازن السياسي الذي اختل بدوره.
فشلت مشاريع الوحدة السورية - العراقية بين جناحي حزب البعث ١٩٧٩، والموقف السوري من حرب العراق وايران، ثم من احتلال العراق للكويت ولم تذهب الوفود العربية الى مؤتمر مدريد بموقف مشترك، ثم جاءت اوسلو «ضربة فاس في الراس» كما يصفها الشرع، لأن «القرار المستقل» الفلسطيني لم يعد «بدعة» حسب تعبير حافظ الأسد.
بوادر الانهيار السوفياتي، بعد فشل بيريسترويكا غورباتشوف، ثم معاهدة «وادي عربة» الاردنية - الاسرائيلية.. وهكذا فقدت سورية «ذخائرها» العربية والاقليمية (بعد ترحيل عبد الله اوجلان من سورية) والدولية (الانهيار السوفياتي).
لماذا طالب ايهود باراك بتعديل «خط» الحدود في الجولان ٤٠٠م شرقاً؟ يقال أن المخابرات الاميركية فحصت بول الاسد، وقدرت أن أجله اقترب، لكن السبب هو أن إسرائيل تتصرف دائماً من منطلق أن أمن اسرائيل يتقدم على السيادة العربية (والفلسطينية خصوصاً).
الى تعديل ايهود باراك لخط الحدود، ومطالبة الأسد بانسحاب من الجولان لآخر متر (كما في سيناء) فقد مالت اميركا الى قبول مطالب اسرائيلية بخطوات سورية لتطبيع العلاقات، او بمحطات رادار اسرائيلية في الجولان.
المفاوض الرئيس الشرع، طالب بالانسحاب أولاً، قبل قمة سورية - اسرائيلية وسفارة اسرائيلية في دمشق.
الاميركيون تفهموا المطالب الاسرائيلية، وعلى الاغلب لأن سورية انتصرت على اميركا واسرائيل في لبنان، بالغاء اتفاق ايار ١٩٨٣، ورفضها فك علاقتها بحزب الله.
الشرع قال: الاميركيون يتصافحون بعد نجاح صفقة لا قبلها، أي ان السلام الكامل يأتي بعد الانسحاب التام، ورفض مبادلات ارضية في الجولان، لأن المتر في منهاتن غيره في اوهايو، وقال بمراقبة جوية بدل محطة انذار ارضية.
لا بد من قراءة الفصل ١٦ من مذكرات الشرع بعناية تامة، لأنه عن آخر محاولة لتزنير إسرائيل بسلام عربي، لكن في الكتاب أن الشرع كان يعارض القطيعة مع عرفات، وطرده من سورية، وتجاهله بعد اوسلو، بينما كان عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي يعارضان سياسة عرفات وشخصه ايضا.
كتاب الشرع «الرواية المفقودة» قد تكون رواية ناقصة، لأنها تنتهي بوفاة الأسد الكبير عام ٢٠٠٠، علماً أنه كان معارضا للتوريث، لكن ليس للوريث بشار، الذي رقّاه الى منصب نائب الرئيس ايضاً، لأنها تخلو من خسارة سورية آخر «ذخائرها» العربية بعد انسحاب جيشها من لبنان ٢٠٠٥ اثر اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري. على ما يبدو، فالشرع كتب مذكراته قبل الفوضى السورية الراهنة بسنوات.
يقول الناشر في مقدمة الكتاب انه كان جاهزاً قبل سنوات من الفوضى السورية، لكن تم تأجيله حتى العام ٢٠١٥ «لأننا لا ندري ما تخبئ لنا الأيام».
المهم أن الرواية الإسرائيلية مكتوبة بأقلام دبلوماسيين وعسكريين، والرواية الأميركية مكتوبة بأقلام المفاوضين ووزراء الخارجية والرئيس كلينتون، وبعد ترّيث وافق الشرع.
هناك، أول الفوضى السورية، من اقترح الشرع رئيساً بدل بشار، باعتباره بعثياً ومن مدرسة الرئيس حافظ، وأيضاً لكونه مسلماً سنياً، لكن ذلك لم يحصل، وبقي نائب الرئيس بلا أي صلاحيات، ولا حتى برتوكولية وتشريفية مثل نائب الرئيس الأميركي.
فقدت سورية ذخائرها العربية، وصارت ملعباً إقليميا ودوليا، لأن حافظ الأسد «الواقعي» لم يكن واقعياً بما يكفي ليعرف ان بلاده لا تستطيع فك العلاقة بين أميركا واسرائيل.. وفك الأمن الاسرائيلي عن التوسع الإقليمي.
الكتاب صدر عن «المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، المقرب من عزمي بشارة من ٤٩٤ صفحة قطع كبير.
* * *
الخلاصة: لو حاربت سورية لاستعادة الجولان وخسرت الحرب لتدخل العالم لتسوية ستكون أقل فداحة لما يجري في سورية الآن.