حال العروبة السياسية من حال العروبة القومية، لكن حال العروبة الثقافية من حال العروبة اللسانية. في المعمورة 420 لغة، بين حيّة وشبه ميّتة، مكتوبة أو منطوقة. منذ العام 1973 صارت اللغة العربية سادسة لغات الأمم المتحدة، ولاحقاً حددت «اليونسكو» يوم 18 كانون الأول يوماً للغة العربية.
عدد الناطقين باللسان العربي يرفعون مرتبة لغة الضاد من سادسة لغات الأمم المتحدة إلى رابع عدد الناطقين بها في العالم، لكن تعد العربية هي اللغة السامية الأولى من جهة، والأغنى عالمياً بعدد مفرداتها البالغ 12 مليونا وثلث المليون مفردة، أي أكثر من مجموع مفردات اللغات الإنكليزية (600) ألف، والفرنسية (150) ألفاً، والروسية (130) ألفاً، ومعظمها مفردات ميّتة أو وحشية اللفظ.
كم عدد المفردات الحيّة في العربية؟ هذا سؤال بعض جوابه أن طفلاً إنكليزياً في الخامسة يتحدث لسانه بعدد من المفردات يفوق طفلاً عربياً، دون أن نسأل ما نعرف جوابه من حيث عدد الكتب الصادرة بالعربية مقارنة لبقية اللغات الرسمية في الأمم المتحدة. أنه «اقرأ» هي أقل الأمم قراءة؟
الإنكليزية هي اللغة العالمية الأولى، لكن معظم ناطقيها الأجانب لا يتحدثون بإنكليزية شكسبير، بل ما يعرف بـ»باد انكليش»، ومعظم الناطقين بلسان «الضاد» العربي يقرؤون القرآن، وهو كتاب العربية المؤسس، ويتحدثون باللهجات العامية.
مع ذلك، فإن العربية تمتاز عن الإنكليزية بأنها تُكتب كما تلفظ، بينما في حديث هاتفي بالإنكليزية قد يسألك المستمع أن «تتهجّى» ما تقول أو (Spell). تمتاز العربية، أيضاً، بمطواعيتها على الاشتقاق، ما يفسر عدد مفرداتها المهول، إضافة إلى مفردات اللغات السامية السائدة قبل نزول القرآن.
كانت لقبائل الجزيرة العربية عدة لهجات، لكن القرآن نزل بلهجة قريش، وكان أول كتاب باللغة العربية، التي انتشرت بفضل الدعوة الإسلامية، حتى صارت حدود ما ندعوه بالعالم العربي، أو الوطن العربي، هي حدود اللسان العربي.
الدين الإسلامي يتخطّى في انتشاره العالمي حدود اللسان العربي، وأحياناً يتخطّى الحرف العربي حدود هذا اللسان، وهو حرف ألفبائي ذو مطواعية مدهشة في رسمه الجمالي.
تعرفون أن العربية، في بدايتها، كانت تخلو من النقاط، وحتى، الآن، يسهل على العربي أن يقرأها دون نقاط، لكن صارت حروفها منقوطة حتى لا يخطئ المسلمون غير العرب في قراءة الذكر الحكيم، وهم بالذات من المسلمين الفرس، الذين وضعوا، أيضاً، قواعد النحو العربية.
لغة القرآن بعدما كرّست لهجة قريش، وبفضل القرآن والدين الإسلامي انتشرت العربية الفصحى على حساب لهجات عربية أخرى، هي لغة بيئة موطن الجزيرة العربية، ونأخذ مثالاً واحداً هو الآية الكريمة: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت» أو للإبل كما للأسد مفردات عديدة جداً، لكن ما يستخدم منها مفردات قليلة، وبما أن حيوان الفيل وحيوان الزرافة غير معروفين في بيئة عربية صحراوية، فإن لهما مفردة واحدة.. ناهيك عن الديناصور ذي الأصل الإغريقي.
منذ كتابة العربية بلغة القرآن وحتى الآن، فإن حروف اللغة العربية تُكتب غالباً موصولة غير منفصلة، ولا تزال كذلك، بينما بقية معظم اللغات العالمية الحيّة تُكتب على نحوين: متصلة أو منفصلة، لكن يسهل كتابة حروفها منفصلة، أيضاً.
إن امتازت العربية بأنها تُكتب كما تُلفظ، فإن اللسان العربي يمتاز بسهولة لفظ حروف في غير الألفبائية العربية، لكن غير العرب يصعب عليهم نطق حرف «الضاد» مثلاً، أو حرف «العين».
مع وسائل الاتصال الحديثة صار معظم العرب يفهمون لهجات عربية، وبالتالي فإن العاميات العربية صارت أقرب إلى لغة عربية حديثة وسلسة، وهذا بفضل العروبة اللسانية والثقافية، وأما حال العروبة السياسية والقومية فهو حال آخر.
تتطور العربية وتزداد غنى وثراء ليس بفضل مجاميع اللغة العربية، لكن أولا بفضل الصحافة والكتب ووسائل التواصل الإذاعي وغير الإذاعي. مع ذلك فإن العربية بحاجة إلى إصلاحها الإملائي مثل توحيد كتابة حرف «الهمزة» بالذات، وهذا يتعلق بإصلاح النحو والإعراب.
أيضاً، مع اقتراب اللهجات العامية ـ المحكية من العربية الكلاسيكية الفصحى، لأن بعض الكلمات العامية هي اختصار بجملة عربية فصحى، مثل: «معليش» وتعني لا شيء عليه، أو لا غبار عليه، وكذلك «منيح» وتعني منحة من الله والحياة.
الإعجاز العلمي في القرآن موضوع فيه جدل، لكن الإعجاز اللغوي فيه قليل من الجدل، لأن العربية غير المنقوطة، ودون حركات إعراب، سبقت تنقيط اللغة ووضع الفتحة والضمة والكسرة. تالياً، فإن جهابذة في العربية النحوية الفصحى قد يجدون في القرآن الكريم كلمات غير خاضعة لقواعد النحو والإعراب، وهذا لا ينفي قول الشاعر: «كان لا بد من نثر إلهي لينتصر الرسول».
أحد المثقفين السوريين أخذ على عبارة مكتوبة على الفيسبوك هكذا: «شكراً لكل مين وقف جمبي عكل الأصعدة» وأفتى أن (مين) تعني الكذب بالعربية الفصحى، وأن (جمبي) اسم مقاطعة في أندونيسيا، وأن (عكل) تعني بالعربية الكلاسيكية اللئيم.
هذا ضرب من ضروب الفذلكة، لكن نحويا مثل عارف حجاوي حاضر في نادي اللغة العربية ـ جامعة بيرزيت، ورأى بأن الأسلوب والسلاسة والإشراق في نصوص اللغة أهم من الأغلاط الإملائية، وبعض قواعد النحو والإعراب، التي كان العربي يلفظها بالسليقة قبل أن يقعّدها الفرس.
الشاعر أدونيس الذي لاحظ أن كلمات في القرآن خارج قواعد النحو اللاحقة على نزوله، لأنها كانت بلهجات غير قريشية، رأى أن الإصلاح اللغوي مقبول على ألاّ يمس إعراب أواخر الكلمات، أي ضد تسكين أواخر الكلمات الذي يقترحه البعض حلاً ومخرجاً لبعض قواعد التزام النحو والإعراب، لأنه يُفقد اللغة موسيقاها الداخلية.