كان ضجيج الحياة في عروق المهر الصغير، أعلى من هدير الحديد. وللفتى فارس زرد من قماش، ودبابة قدامه يخالها «نمراً من ورق».
قفز الفتى من دفتر الرسم. امتطى عمره الطري إلى درس الشوارع. من قال: «ليت الفتى حجر / ليتني حجر» ومن رأى الغلام فارس، والقهر في عينيه لأنهم أخذوا منه بلاداً؛ وأعطوه مخيما. أخذوا منه حلم امتطاء دبابة كان يرسمها على الورق .. أو يمزقها نتفاً من ورق!
اسم الفتى فارس عودة، ونوع الدبابة «مركفاه» ودراجة العيد فوق طاقة الأب الفقير، والحجر سلاح الشجاع .. وزاد الفقير إلى حلم امتطاء لعبة من حديد.
للقادة حلمهم أنهم يفيقون كصلاح الدين، وللأولاد، في عمر فارس، أن يحلموا بدبابة ضد النظام؛ ونظام جديد ضد النظام القديم.
هل كان فارس تعيسا في رسم دبابة من حديد، وشاطراً في رسم طيارة من ورق؟
هل كان، ابن أمه وأبيه وتلميذ مدرسته، لا يركض جيدا في درس الرياضة، فكان يحلم بغير صلاح الدين؟ شرطي سير مثلاً تأتمر دراجات الأولاد وسيارات الآباء بإشارة من كفه: قف أو «هات رخصة السياقة» ؟
ينقلب حلم الفتى، فإذا به حمامة من حديد والدبابة ذبابة؛ والذباب بغيض صيفاً شتاء.. وهو ربيع البلاد من شتاء جدّه في «النكبة» إلى خريف أبيه في «النكسة» إلى صيف أخيه الكبير الذي غادر البلاد ليكون فدائياً .. وعاد أباً صغيراً : احفظ دروسك يا ولدي!
الدرس درس سياسة فلسطين دولة في الكتاب، والخارطة على جدار الصف تقول: فلسطين وطن في درس الجغرافيا. ارسم فلسطين خارطة الوطن، ولوّن بعض فلسطين خارطة الدولة.. أو اذهب لى فسحة انتفاضة بين درس السياسة ودرس الجغرافيا.
«ليت الفتى حجر» ولكن الفتى حمامة من حديد. مهر مسكون بضجيج الحياة و»ولدنة» بين درس الرياضة وحرب الشوارع.
هل كان الفتى فارس عودة يحب رياضة رفع الأثقال إلى أعلى، ويكره رياضة الركض إلى الوراء؟ أو كان يحلم بقبضة محمد علي الذي «يلسع مثل نحلة ويطير مثل فراشة».. أو كانت الحرب «لعبة حرب» بين أولاد حارته وأولاد حارة أُخرى؟
رأى الحرب لعبة على شاشة التلفاز، وليس في جيب الأب الفقير مال ليشتري ديسكا مدمجا للعبة «بوكمان» حيث الحمامة تصير «طير الرخ» .. والأشرار الذين يرتدون الحديد يولون الأدبار.
«جادت له كفي بعاجل طعنة / بمثقّف صدق الكعوب مقوم».
هكذا، قال أبو الفوارس عنترة.
يد الولد فارس عودة جادت للدبابة بحجر تلو الحجر.
نقرت الحمامة زرد حديد الدبابة، فشعر فارس بأن ضجيج الحياة في عروقه صار أقوى بعد ارتطام حجره بحديد الدبابة.
وفي دروس الانتفاضة الأولى أن ولداً في السادسة كان يبكي لأن القهر أكبر من جسده الصغير، ومن غيظه رمى حجراً مع طفرة الدمع.
عندما جاء درس الانتفاضة الثانية صار ولد الانتفاضة الأولى عازفا في المعهد الوطني للموسيقى.. والقهر الذي ملأ جسده صار موهبة تلعب على أوتار الكمان.
في الانتفاضة الأولى كان فارس في رحم أمه، أو كان يبكي إذا تأخرت عليه زجاجة الحليب أو ثدي أمه.
تمام الثانية عشرة من العمر الطري نحلم بالحرية درساً في الرسم السياسي ينطبق على درس في الجغرافيا: فلسطين كبيرة والغلام صغير. فلسطين جميلة وعسكر أشرار يطبقون على حلمه، كأنهم يهبطون من الكابوس إلى النهار؛ من لعبة «الأتاري» إلى الشارع بين البيت والمدرسة.
حجر. حجران على الدبابة - الذبابة، ثم طارت الحمامة إلى عشها بسلام. صارت صورته غلافا للمجلات. صورته تزغرد على الفضائيات: هذا هو الفتى.
بين يوم ويوم طال ريش فرخ الحمامة، والجنود خلف متاريسهم رأوا ظله القصير يقترب.
رأوا ظلهم الطويل يقصر، لم ينذروه أن يسحب ظله عن خوذاتهم.. أخرجوه من اللعبة والملعب ثخين الجراح.
أخرجوه من المستشفى جثة هامدة. حملوه إلى قبره الطري جسماً خفيفاً .. قليل من عظام الحليب على قليل من لحم الطفولة الطري .. أو أنه كان يحلق فوق جنازته، يحمل معهم جسده .. هارباً من ولولات أمه عليه، من صيحات إخوته: لم تنته اللعبة يا فارس، وكتاب المدرسة لم تنته أيامه .. وحصة الدرس لم تحفظها بعد، والخريطة في الكتاب غير الخريطة على جدار الصف.
له رقم متسلسل في قائمة الشهداء - الأحياء. له الرقم الأول في قائمة القتلى الأطفال - الأبطال. له اللعبة الأولى في لعبة «الحرية أو الموت» وللقتلة اللعبة الأخيرة في لعبة «موت الاحتلال».
قفز الفارس الصغير من دفتر الرسم. امتطى شهاب عمره. والقهر الذي في أعصابه نام.
من قديم حسن البطل