بقلم : حسن البطل
بين الآونة وأختها، أعود الى أمهات كتب قديمة، لتمرين قلمي ولغتي، ولجلو سقم الروح بطرائف ولطائف، بعضها مغموس بالحكم والعبر، وخلاصة إمعان النظر في أحوال البلاد والعباد، وكيف يكون فساد الرأي، وكيف يكون صلاح العباد والبلاد.
تصادفت رحلة ‹ابن جبير› الى حج مكة مع زمن صلاح الدين الناصر بن أيوب، في العام 1183 ميلادية. فهي مفيدة في الشهادة على زمانها وزمان بأسها. والكتاب ذاته من نفائس أدب الأسفار والرحلات في التاريخ العربي الإسلامي. وكان أحد المراجع في كلية آداب اللغة العربية بجامعة دمشق خلال السبعينيات. وهنا مقتطف عن فساد رأي الناس وسداد حكم ذوي العلم والحجى. وفي مواضع أخرى من رحلته في مصر والحجاز يتعرض لمفارقات من جور الولاة أو عدالتهم .. وعادات الناس في زمانهم ذاك.
* * *
استهل هلال ذي الحجة ليلة الخميس بموافقة الخامس من مارس. وكان للناس في ارتقابه أمرٌ عجيب، وشأن من البهتان غريب، ونطق من الزور كاد يعارضه من الجماد ـ فضلاً عن غيره ـ ردّ وتكذيب.
وذلك أنهم ارتقبوه ـ ليلة الخميس الموفّي ثلاثين ـ والأفق قد تراكم غيمه، الى أن علته ـ مع المغيب ـ بعض حُمرة من الشفق.
فطمع الناس في فرجة من الغيم، لعل الأبصار تلتقطه فيها.
فبينما هم كذلك إذ كبّر أحدهم، فكبّر الجمّ الغفير لتكبيره، ومَثَلوا قياماً، ينظرون ما لا يبصرون، ويشيرون الى ما يتخيلون، حرصاً منهم على أن تكون الوقفة بعرفة يوم الجمعة، كأن الحج لا يرتبط الا بهذا اليوم بعينه.
فاختلقوا شهادات زورية، ومشت منهم طائفة من المغاربة ـ أصلح الله أحوالهم ـ ومن أهل مصر وأربابها. فشهدوا عند القاضي برؤيته. فردهم أقبح رد، وجرّح شهاداتهم أسوأ تجريح، وفضحهم في تزييف أقوالهم أخزى فضيحة، وقال: يا لَلعجب! لو أن أحدهم يشهد برؤيته الشمس ـ تحت ذلك الغيم الكثيف النسج ـ لما قبلته. فكيف برؤية هلال هو ابن تسع وعشرين ليلة؟
وكان أيضاً مما حكي من قوله: ‹تشوشت المغارب (اضطرب أمر المغاربة): تعرضت شعرة من الحاجب، فأبصروا خيالاً ظنوه هلالاً ‹ يعني أن شعرة من حاجب الرائي لاحت أمام عينيه، فحسبها لاستدارتها هلالاً.
وكان لهذا القاضي: ‹جمال الدين› ـ في أمر هذه الشهادة الزورية ـ مقام من التوقف والتحري، حَمَدَه له أهل التحصيل، وشكره عليه ذوو العقول، وحُق لهم ذلك، فإنها مناسك الحج للمسلمين أتوا لها من كل فج عميق. فلو تسومح فيها بطل السعي، وفَالَ الرأي (فسد). والله يرفع الالتباس والباس بمنّه.
فلما كانت ليلة الجمعة، ظهر الهلال ـ في أثناء فُرَج السحاب ـ وقد اكتسى نوراً من الثلاثين ليلة، فزعقت العامة زعقات هائلة، وتنادت بوقفة الجمعة، وقالت: ‹الحمد لله الذي لم يخيب سعينا، ولا ضيّع قصدنا›. كأنهم قد صحّ عندهم أن الوقفة اذا لم تكن توافق يوم الجمعة ليست مقبولة، ولا الرحمة فيها من الله مرجوة مأمولة. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ثم إنهم ـ يوم الجمعة المذكورة ـ اجتمعوا الى القاضي، فأدّوا شهادات بصحة الرؤية تُبكي الحق وتُضحك الباطل. فردّها وقال: ‹يا قوم: حتّام هذا التمادي في الشهوة، وإلام تستنّون ‹تسرعون في الجري في طرق الهفوة›. وأعلمَهم انه قد استأذن الأمير ‹مكثراً› وهذا اسمه، في ان يكون الصعود الى ‹عرفات› صبيحة يوم الجمعة، فيقفوا عشية بها. ثم يقفوا صبيحة يوم السبت بعده، ويبيتوا ليلة الأحد بـ ‹مزدلفة›. فإن كانت الوقفة يوم الجمعة، فما عليهم ـ في تأخير المبيت بـ ‹مزدلفة› ـ بأس، اذ هو جائز عند أئمة المسلمين. وإن كانت يوم السبت فبها ونِعْمَت.. فنِعْم ذلك. وأما ان يقع القطع بها يوم الجمعة فتغرير بالمسلمين، وإفساد لمناسكهم، لأن الوقفة يوم التروية عند الأئمة غير جائزة، كما انها جائزة يوم النحر.
فشكر جميع من حضر للقاضي هذا المنزع من التحقيق، ودعوا له، وأظهر من حضر من العامة الرضا بذلك، وانصرفوا عن سلام.
* * *
هو ابن الحسين محمد بن جبير الأندلسي، من غرناطة. وكان بدأ رحلته لحج بيت الله الحرام في 25 شباط 1183 (3 شوال 785هـ)، فوصل مكة بعد سبعة أشهر ونيف.
المقتطف من ‹مكتبة كامل كيلاني ـ قصص عربية، دار المعارف ـ ط8 ـ أول يناير 1940، الفصل الثاني عشر بعنوان ‹ارتقاب الهلال›.