أبو العيس يموت بهيّاً

"أبو العيس" يموت بهيّاً؟!

"أبو العيس" يموت بهيّاً؟!

 لبنان اليوم -

أبو العيس يموت بهيّاً

حسن البطل

أياماً متوالية أشيح بوجهي عن ذلك الصندوق الوضيع.. وفي يوم أختلس نظرة إلى داخله: «رهين بِلَى، وكل فتى سيبلى..»، قال شاعر قديم صار.. رميماً. النوّ والجوّ ينهشان صندوقاً كرتونيّاً بنّياً، ليس إلاّ سَقْط سيارة القمامة، عندما تنعطف.. آخر «شارع الأيام». عند ذلك الانعطاف، في هندسة الشارع وفي شروط تمهيده التي تنحطّ حقّاً، لاقت أربعة جراء «جعارية» موتاً مأساويّاً مُتلاحقاً.. وفي الصندوق جثّة الجرو الرابع. أجمة شعره الأسود الفاحم انهارت على عظام الحليب. كانت الجراء أربعة، ركنتها أمها - على ما يبدو - إمّا بين جلاميد الصخر، وإمّا داخل علبة الكرتون. الموت الأوّل: اختفى جرو من الجراء الأربعة (لا أنسى كيف كانت تستعطفني). قلت في نفسي لعلّ ولداً (مثلما كنت ولداً) اختطف جرواً (مثلما كنت أختطف). الموت الثاني: لو دهَسَتْني سيّارة القمامة لفعصتني فعصاً، فكيف لا ينفعص جروٌ ابن أسبوعه. كان جرو آخر يَقْعِي حزيناً (سأكتشف، لاحقاً، أنه يموت من الجوع على مهل، وأنه كان يستعطفني ما يُؤكل).. والجرو داخل العلبة لا يقوى على الوقوف بقدميه الأماميتين على حافة الصندوق. الموت الثالث: أين أنتِ أيّتها الكلبة - الكلبة. لو كنتِ كلبة رؤوماً فعليك نقل جرائك من هذا المنعطف المهلك؟ .. وفي الموت الثالث للجرو الثالث رأيته هامداً في مطرحه، قرب الكرتونة (تأكّدت أنّه مات جوعاً). الموت الرابع: جلبت حليباً، ولم يكن هناك أيّ جرو. نظرت إلى داخل الكرتونة.. كان الموت أسبق. فقط، رائحة كريهة جديرة بجثّة كبيرة، قادتني إلى الكلبة الكبيرة.. هل ماتت مسمومة (بلسعة أفعى مثلاً أو بلقمة مسمَّمة) أو دهستها السيّارة منذ يوم الموت الأوّل للجرو الأوّل؟ لست أدري. دِيدان الموت تنغل الجثة بطرفيها، كأنّها حرف الواو الإغريقي (أوميغا)، الأشبه بقبّعة حديديّة لجندي قتيل. هل كانت الكلبة - الأم غبيّة؟ لا، فهي تنقل جراءها إلى أماكن مختلفة يوماً بيوم، حتى تقوى.. ثمّ تتركها لشأنها. هل كنت أنا الكائن الغبيّ؟ جلبت علبة الحليب متأخّراً ثلاث ميتات.. ولأكتشف أنّني تأخّرت أربع ميتات. هذه عقوبتي: أيّاماً أشيح بوجهي، ويوماً: «كل جرو رهين بلى».. وأحياناً، قبل أن يأخذ حاجته من الحليب! «أبو العيس» .. أو ربّما صرصار حقول آخر، له قبّعة لامعة حمراء بنقاط سوداء. صرصار طائر، يلهو به الأطفال (لهوتُ به وأنا صغير) كما يلهون بـزيز الحصاد، جميل الألوان. خيط في رجله.. ثمّ نشفق عليه. هنا يسمّونه «أبو العيس» وله في قبرص اسم موسيقى طويل. دروب نيقوسيا الجانبية ربيع في الربيع؛ وفي كلّ ربيع كانت ابنتي تقضي عطلة الربيع عندي. الأطفال والتفاصيل.. والنظرة الفضوليّة الثاقبة. ذات يوم ربيعي، كانت حشرتا «أبو العيس» الواحدة تجرّ الأولى، والرأسان متعاكسا الاتجاه. «ما هذا يا أبي» سألت الصغيرة ابنة السادسة. «هذا أبو العيس يجرّ رفيقه المريض». في العودة، ظهراً، سألتني: «انظر يا أبي..». قلت: «هذه حشرات أخرى.. ولكلّ الكائنات مواسم تزاوج». سنوات بعد ذلك، اكتشفت أنّ البنت الصغيرة كانت تطابق بين أجوبة معلّمة الصفّ، وأجوبة «البابا»؟! عدا ممّا بدا نظرتُ إلى رأس الأرنب البرّي في طنجرة الملوخيّة الناعمة.. أخرجته، ثمّ ألقيت به في وعاء القمامة. تذكّرت أنّني، منذ بعض السنوات، أطلب من بائع الدجاج تقطيعها، ومن اللحّام توزيع اللحمة حُصصاً جاهزة للطبخ. تذكّرت أنّ البنت رفضت تناول شيء من خاروف صغير محشو. لماذا؟ ألا تأكلين اللحمة؟ آكل اللحمة.. لكن هذا خروف صغير. هذه جثّة وليست لحمة. تذكرت أنّني كنت، صغيراً، أقطّع رقاب العصافير بيدي، ثمّ «أعلس» رؤوسها نيّئة.. بأسناني. أمتصّ مخّها الصغير، وألفظ عظامها. لم أعد أفعل ذلك. لم أعد أقوى على النظر إلى رأس أرنب بريّ في طنجرة الملوخية الناعمة. نظرت إلى الصندوق: «رهين بِلَى.. وكلّ فتى سيُبلَى». كلّ كلب. وأرنب.. وبطّة.. غير أنّ «أبو العيس» يعيش بهيّاً، ويموت بهيّاً. حسن البطل 25-11-1999  

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أبو العيس يموت بهيّاً أبو العيس يموت بهيّاً



GMT 22:18 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل... القضاء على «الأونروا» بعد «حماس»

GMT 22:16 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

الجبل السحري

GMT 22:14 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

هل إيران مع تنفيذ القرار 1701؟

GMT 22:12 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

هروب “الزمن الجميل”!

GMT 22:09 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

... عن الأفكار والنساء والمقاومات

GMT 22:07 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

دروس الأزمة الأوكرانية... أميركياً و«شرق أوسطياً»!

GMT 22:05 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

الكل متأخر... سيدي!

GMT 22:01 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

«الجونة».. وضبط الجرعة في التعامل مع الأزمات!

إطلالات عملية ومريحة للنجمات في مهرجان الجونة أبرزها ليسرا وهند صبري

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 17:09 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

غارات اسرائيلية على جنوب لبنان وصواريخ تطلق نحو الجليل
 لبنان اليوم - غارات اسرائيلية على جنوب لبنان وصواريخ تطلق نحو الجليل

GMT 11:00 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

تامر حسني يواصل تقديم المفاجآت لجمهوره في حفلاته
 لبنان اليوم - تامر حسني يواصل تقديم المفاجآت لجمهوره في حفلاته

GMT 13:59 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 15:41 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

انتبه لمصالحك المهنية جيداً

GMT 09:34 2024 الخميس ,10 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار لتنظيم مكتب الدراسة وتزيينه في المنزل المعاصر

GMT 12:35 2022 الأحد ,03 تموز / يوليو

"تي باو" تطلق اللاب توب Tbook X11 الجديد

GMT 21:10 2021 الثلاثاء ,14 أيلول / سبتمبر

طنجة عروس شمال المغرب افضل وجهات شهر العسل لصيف 2021

GMT 21:45 2023 الأربعاء ,14 حزيران / يونيو

ديكور أنيق يجمع بين البساطة والوظائفية

GMT 19:09 2023 الأحد ,09 إبريل / نيسان

تنانير عصرية مناسبة للربيع
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon