بدءاً من الأمس، يصافح أيار مودعاً شهور الاعتدال الربيعي، ويلوّح لشهر الانقلاب الصيفي في حزيران.. هذا فلكياً، وفي النصف الشمالي من الكرة الأرضية.
لكن، ومناخياً، كان سقف هذا الأيار من هذا العام متداخلاً «مخلوطة» من اعتدال الربيع، ومن قيظ الصيف. يعني: إما في أيام 21 درجة فوق «المعدّل» أو 5 درجات دون المعدّل، أو «صيف وشتاء» على سقف أيار هذا العام.
سياسياً، وفي منتصفه بالذات، فهذا شهر النكبة، وكانت «احتفاليتها» في عامها الـ68 تذكّر باحتفاليتها في «يوبيلها» الوخيم 1998.. سوى أن «رائحة الدولة» في ذلك العام، أي العام الأوسلوي الأخير قبل مفاوضات الوضع النهائي 1994، غلبت عليها هذا العام «رائحة العودة».
في الاحتفال المركزي أيار 1998 ألقى عرفات، القائد العام، ودرويش، الشاعر العام، خطابين في ساحة المنارة؛ وفي أيار 2016 أنشد المطرب العام، محمد عساف في ميدان عرفات (ساحة الساعة) وتحدّث محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة، عن حق «العودة الواقعية»، ولعلّه يقصد بها عودة 300 ألف مهجّر فلسطيني إلى قراهم في فلسطين/ إسرائيل.
حيث خطب عرفات ودرويش في ساحة المنارة، تحت النخلات الستّ العاقرات، علقوا بين الشجرات في أيار النكبوي هذا العام، يافطات لدائرة شؤون اللاجئين في م.ت.ف.
استوقفتني يافطة تقول: «بالكفاح نحقق حق العودة». كلمة «الكفاح» غير متبوعة بما في قاموسنا بـ»المسلح» كما «النضال» متبوعاً بالسياسة والمفاوضات و»المقاومة» متبوعة بالانتفاضة!
كان عرفات فسّر تطبيق «حق العودة» بما لا يخلّ بتوازن إسرائيل الديمغرافي، ومبادرة السلام العربية لعام 2002 تحدثت عن عودة عن طريق المفاوضات، بينما يقول نتنياهو إن الدولة الفلسطينية تمرّ بطريق المفاوضات الثنائية فقط، وتقول المبادرة الفرنسية إنها تمرّ بمشروع دولي وعبر مؤتمر باريس الدولي، ثم عبر قرار من مجلس الأمن، وسيحدد بيان الرباعية، غداً، اتجاه مؤتمر باريس في مسألة الاستيطان، أي صيغة القرار في مجلس الأمن، أي التصويت الأميركي عليه، إن أخفق مؤتمر باريس في 3 حزيران، ولم تشارك إسرائيل في مؤتمر لاحق يُعقد في الخريف.
ثقافياً، كان هذا الأيار حافلاً بالمناسبات، من معرض فلسطين العاشر للكتاب، إلى افتتاح مبنى متحف الذاكرة الفلسطينية في بيرزيت، المميز شكلاً ومحتوى عن متاحف العالم، ولو بعد استكماله خلال عشر سنوات. أيضاً، هناك احتفالية الأدب العالمية، علماً أن هذه المناسبات الثقافية لم تكن مواقيتها السابقة في هذا الشهر النكبوي.
عادة، يكون أيار، إلى استذكار النكبة، شهر الامتحانات المدرسية، التي نجحت وزارة التربية والتعليم، بطريقة أو بأخرى، في عقدها في موعدها، رغم إضراب طويل للمعلمين، وقبل حلول شهر الصيام، الذي يبدأ آخر الأسبوع الأول من حزيران، كما يبدأ المؤتمر الدولي العشريني الأعضاء في الثالث من حزيران، الذي هو، مع أيار، شهر التخريج والتفويج في الجامعات الفلسطينية.
بيتي في رام الله ـ التحتا يجاور (أو هو محاصر) ثلاث مدارس رسمية ثانوية للبنات، ومدرسة «اونروا» للذكور، وثالثة حضانة أطفال على مدار العام. في ذهابي الصباحي من بيتي إلى مقهاي، قبل ذهابي منه إلى مكتبي، أحظى برؤية إيقاع شوارع مدرسي مختلف!
تلميذات المدرسة الثانوية يخرجن من قاعة امتحان في مادة أو مقرّر ما، ويصعدن حافة أرصفة شارع المدرسة لمذاكرة امتحان آخر، أو يتمشين في شوارع رام الله التحتا (خصوصاً شارع الشقرا، وشارع نبيهة فرح خليل، وشارع البلدية القديم) وهنّ يقضمن سندويشات الفلافل، أو يشربن المرطّبات، أو يقرقشن ما في أكياس رقائق البطاطا والذرة!
إنهن أمهات الغد، اللواتي يرتدين الآن سراويل مقلّمة بالأخضر والأبيض، أو مربّعات الأحمر والأسود، وسوف يرتدي بعضهن أرواب التخريج والتفويج، مع قبّعات مربّعة، وأثواب التخريج المختلفة من جامعة إلى أخرى!
لا أعرف كيف ستمدد وزارة التربية مواعيد الامتحانات الأيارية في سنوات مقبلة، حيث أن بدء شهر الصيام يتقدم أياماً عشرة كل عام.
كيف سيبدو أيار 2017؟ هل أن احترار جوّ الأرض سيجعل بعض أيامه مثل شهر آب، أو أن المبادرة الفرنسية لمؤتمر دولي سوف تذوي، أو أن نتنياهو وحكومته اليمينية سوف تبقى صاحبة الأجل الأطول في حكومات إسرائيل، أو أن جعجعة المصالحة الفلسطينية سوف تطحن حبّها طحيناً، أو تطوي صفحة الانقسام، أو أن واشنطن، ما بعد إدارة أوباما، سوف تنطق بما همّت إدارته أن تنطق به في مسألة «الحل بدولتين»؛ أو أن عدوى «الربيع العربي» الذي بدأ في تونس الخضراء، ستتبعه عدوى تحوّلات حركة النهضة في الحركات الإسلامية بسورية والعراق، أي بـ «الفصل بين السياسي والديني» أو «الديمقراطية الإسلامية».
هل يعني «فصل الدين عن السياسة» فصله عن الدولة؟ أي السير نحو ديمقراطية إسلامية تشوبها العلمانية؟
أيار يصافح الاعتدال الربيعي مودّعاً، ويلوّح لاستقبال الانقلاب الصيفي.. هذا فلكياً، لكن مناخياً سنعيش «مخلوطة» حرّ وقرّ، وصيف وشتاء، وأما سياسياً، فإن مرور نصف قرن على الاحتلال، قد يكون مثل مرور نصف قرن على النكبة، وأن «يرونها بعيدة ونراها قريبة» سوف يكون الحال المقيم أعواماً طويلة مقبلة، لا نعيش خلالها «الدولة» ونرى «حق العودة» سراباً يبتعد، وفوضى «الربيع العربي» ضاربة أطنابها.
فقط الامتحانات المدرسية، واحتفالات التخريج والتفويج الجامعية سوف تواكب أيار النكبوي المقبل، إذا تبدّلت مواعيد معرض الكتاب، واحتفالات الأدب... إلخ.