سأروي لكم قصة فيها غصّة. قبل سنوات، تخرج من جامعة بيرزيت نذير، ابن الفلاح فطافطة، من بلدة ترقوميا، والذي لم يجد وظيفة، حتى براتب 1500 شيكل، صار خبيراً في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) (بعد مسابقة حلّ فيها أولاً) ومحاضراً في الجامعات الألمانية، ومرشحاً للجنسية الألمانية.
هذا الأسبوع، بلّش موسم حصاد الشعير في قطاع غزة، حيث تراجعت مساحة الأراضي الزراعية بنسبة 33% خلال 17 سنة.. فقط.
فكرة نذير في تطوير الزراعة الجينية، هي قطع الصلة بين نمو الحبة واصفرار الورقة، بما يزيد محصول الحبّ بنسبة 20%.
لا أجزم في معلومة تقول إن أول تدجين للقمح كان في سفوح ومنطقة جبل الكرمل، أي تدجينه وتحويله من نبتة برية سامة إلى حبوب صالحة للاستهلاك الآدمي، ولا في معلومة أخرى تقول: إذا صام مستهلك الخبز طويلاً عنه، ثم استهلك كمية كبيرة في وجبة، فقد يتسمم ويموت!
ما الذي ذكرني بهذا؟ جريدة «الأوبزوفر» البريطانية، وليس أية مطبوعة فلسطينية، تحدثت عن مساعي فلاحي قرية «بتير» في تأصيل البذور بالاصطفاء والانتخاب، وهي أقدم طريقة في حفظ وتحسين إنتاج المحاصيل.
ناس البلاد يعرفون جودة «الباذنجان البتيري» وهذه القرية الزراعية جنوب بيت لحم التي تعد من بين الأجمل في فلسطين، صارت بمدرجاتها ومصاطبها الزراعية القديمة جداً والخصبة، جزءاً من التراث الإنساني. على ذلك، قد يبقى الباذنجان البتيري «البلدي» محتفظاً بنكهة الباذنجان الأصلية!
هل حقاً كان الفلاح الفلسطيني القديم أول من دجّن القمح والشعير البري؟ لكن نحن في زمن تنتج فيه حقول فلسطين السلطوية لا أكثر من 10% من احتياجات الناس من القمح، كما تراجعت حصة الزراعة في فروع الاقتصاد الفلسطيني.
لا ينتج هذا العالم العربي ما يكفيه من حاجته إلى «الأمن الغذائي» وكان هناك من يحلم أن يصير السودان «سلة غذاء» عربية وأفريقية، لكن مصر هي أكبر مستورد عالمي للقمح.
وحدها سورية كانت تنتج فوق كفايتها من القمح والشعير، وفي السنوات الطيبة والمطيرة، كانت تنتج أربعة ملايين طن من القمح، وتستهلك 2.5 مليون طن وتصدر الباقي.
الآن، صارت سورية، منذ اندلاع حربها الأهلية، تستورد القمح من روسيا أولاً، وفي العام الماضي 2015 باع الفلاحون للدولة لا أكثر من 450 ألف طن قمح، بينما تحتاج مناطق السيطرة الحكومية إلى ما لا يقل عن 1.5 مليون طن.
معظم إنتاج حقول القمح في سورية من مناطق الجزيرة السورية، حيث تدور الحرب. لكن، في زمن تاريخي غابر كانت حوران هي «أهراءات روما» أي إمبراطورية روما.
حتى خمسينات القرن المنصرم، كانت سورية تقايض كل شوال من القمح الحوراني الصلب بثلاثة أمثاله من القمح الإيطالي الطري، لأن القمح اليابس جيد لصناعة المعجنات الإيطالية الشهيرة.
الآن، معظم أقماح العالم صارت مدجّنة عن الأقماح الأميركية والأسترالية، وهي تعطي محصولاً مضاعفاً مرة بل مرات عن القمح الصلب الحوراني.
الهندسة الزراعية الجينية، في القمح والأرز وسواهما مثل البندورة، أيضاً، مكّنت العالم من إطعام عدد سكان متزايد لكن هناك مخاطرة، وهي أن التدخل الجيني الزائد يُفقد المحاصيل هذه نكهتها (البندورة خير مثال) والأخطر هو حاجتها الزائدة إلى المبيدات الكيماوية، التي تؤثر سلباً في صحة المستهلكين، وفي النهاية قد تنهار هذه المحاصيل بسبب الإفراط في التدخل الجيني.
منظمة «الفاو» احتاطت، وأقامت عدة مراكز وبنوك لحفظ الحبوب الأصلية، وتطعيم المحاصيل بها. من هذه المراكز والبنوك واحد في الجزيرة السورية وآخر في الهند، هذا في قارة آسيا.
«داعش» البربرية معنية بجزّ رقاب الناس، وتحطيم الأصنام، لكنها مع ذلك حافظت على بنك الحبوب بالتفاهم مع الدولة!
هناك شركات زراعة أميركية معنيّة باحتكار بذور المحاصيل، وكذلك بإخصائها من الحبوب الأصلية، ليحتاج المزارعون كل سنة أو سنتين لبذور مهجّنة وراثياً؟
لم تعد البندورة هي البندورة، ولا البطيخ، ولا معظم المحاصيل مثل العنب اللابذري (بذوره مقاومة للسرطان) وصارت المحاصيل تحتاج كميات أكبر من المخصّبات الصناعية، ومن المبيدات.
صحيح، أن الزراعة التقليدية، أي بالحفاظ على بذور أحسن ثمرة، لا تكفي حاجة الناس، لكن بلداً كان مغلقاً أمام العالم، هو ألبانيا أنور خوجة، أهدى «الفاو» كنزاً من البذور الأصلية هي نتيجة اصطفاء الفلاح الألباني لأحسن البذور، وحفظها في صُرر من القماش ووضعها تحت الفراش للموسم المقبل!
هناك «كنز» من الذهب أو من الألماس، لكن هذا «كنز» من البذور المؤصلة بالانتخاب والاصطفاء الطبيعي، سوف يستخدم إذا بالغوا في اللعب بالجينات الوراثية، بما يهدّد بانهيار المحاصيل.
صار يمكن زراعة الأرز، غذاء آسيا، دون الحاجة إلى غمر الحقول بالماء، لكن الحبوب القديمة للأرز القديم محفوظة لوقت الطوارئ.
في أميركا هناك 1% من السكان يمارسون الزراعة، لكن الإنتاج يكفي البلاد ويسدّ حاجة بلاد أخرى، بفضل «مكننة» الزراعة والحصاد، ورشّ المحاصيل من الجو.
كانت «المجاعة» إحدى فرسان القدر، مثل الحروب، لكنها لم تعد كذلك بفضل الهندسة الزراعية الجديدة، التي تحمي انهيارها بذور مؤصّلة قديمة بالاصطفاء والانتخاب الطبيعي.