هل تخربطت؟ كانوا يقولون: مصر تكتب. بيروت تطبع.. والعراق يقرأ. كانت الصحافة والصحافيون في لبنان هي «العاصمة» العربية. الآن، تشّت وخسّت، بما فيها «النهار» و»السفير» و»الأنوار».. إلخ!
لكن، فصلية «بدايات» الثقافية الفكرية كأنها «ترث» في الأدب والثقافة، ما كانته مجلة «شعر» في الإبداع والتجديد، لمؤسسها يوسف الخال، ثم حملت الراية فصلية «مواقف» للحريّة والإبداع والتغيير لمؤسّسها أدونيس.
«كشكول» ثقافي فكري؟ بأبوابها الثابتة الـ 11 جامعة تناول فنون المعرفة على اختلافها: التاريخ والأديان والفلسفة والفنون، إلى الآداب والشعر والذاكرة.. والوثائق والصور، والرسوم والفن والموسيقى.. إلخ!
بابها الأول، منذ هذا «الربيع العربي» هو «الثورات بشبابها». يتصدر الإصدار الـ 14 لربيع وصيف هذا العام ملف وافٍ عن مئوية سايكس ـ بيكو، وما كنت أعرف أن الخرائط كانت «بروفات» إلى أن استقرت على حدودها الراهنة.. التي اهتزت.
في العدد الأخير، وجدت في ملف «يا عين» شيئاً يخُصّني، حيث كتب جوزيف طرّاب عن «اكتشاف للذّات من خلال الحرب».. أو من فن الرسّام التشكيلي أيمن بعلبكي. لماذا يخُصّني؟
لأن كاتبه جوزيف طرّاب ذكّرني، من حيث حرفة كتابة النقل الفني، بما كان عليه جوزيف خاطر في «النهار»، أيام زهوتها. أيضاً، لأن للمقال ملحق صور للرسّام من ذاكرة حروب لبنان، وبالذات الحرب الأهلية، وبخاصة معارك الوسط التجاري لبيروت، وحروب العمارات العالية والفنادق للقنص!.. أو للقنّاص!
في تقديم الكاتب أن جوزيف طرّاب ناقد فنّي وصحافي باللغة الفرنسية، وله مؤلفات عن فنّانين لبنانيين بارزين. لكن، كيف أقدّم جوزيف؟
إنه لبناني عربي يهودي، له وقفة خطابية في باريس، بعد حرب حزيران 1967، وبلغته الفرنسية المولييريه، سأل السامعين؟ هل تعرفون من أين أنا؟ أنا لبناني عربي يهودي.
هل مرّ عليكم كتاب رسوم ـ «شهادات الأطفال في زمن الحرب» لمؤلفته منى السعودي عن أطفال مخيم البقعة وذاكرتهم عن حرب حزيران 1967بأقلامهم الملوّنة أو الخام؟ هو الذي كتب الترجمة الإنكليزية والفرنسية لكتاب قال عنه محمود درويش: لم يبقَ من المقاومة بعد أيلول عمّان 1970 سوى كتاب منى السعودي؟!
جوزيف طرّاب يتقن أو يلمّ بـ 14لغة، نصفها لغات سامية قديمة، إلى لغات حيّة: العربية والإنكليزية والألمانية والفارسية والعبرية، أيضاً.. إلخ.
ما الذي يخصّني في حكايته؟ لما دخل الجيش السوري بيروت، بعد حرب السنتين من الحرب الأهلية الكبيرة، ذهبت وزوجتي على درّاجتين ناريّتين لتفقُّد خراب أسواق بيروت، بما فيها وادي أبو جميل، حيث يوجد كنيس يهودي، حماه ياسر عرفات بحرسه الخاص (القوة 17)، ولا أعرف عن لبناني يهودي مات في الحرب.
قالت زوجتي عند «خريبة» من الخرائب: هنا كانت مكتبة والد جوزيف طرّاب، فانتشلت من الحطام ثلاثة كتب ـ مخطوطات يدوية بالعبرية. سألت جوزيف أن يأخذها، فاستمهلني شهوراً، ثم أخذها.
خلال بداية تلك الحرب، كان جوزيف موظفاً في «معهد غوته» الألماني ببيروت، وكان يزرونا أحياناً، في بيتنا بشارع أميركا، خلف البنك المركزي اللبناني.
هو يقرأ لوحات الرسّام أيمن بعلبكي، في صفحة واحدة مركزة. «ضربات الفرشاة التي تتداخل بعصبية بطريقة سوداوية تودّ أن تحكي صور قوة الدمار. والواقع أنها تعكس العملية، إذ تحول دمار الحارة إلى بناء للعمل الفني مستقلاً بات بذاته، لا زمنياً، ذا صفة شبه ميتافيزيقية. تؤكد اللوحات على استمرارية الحياة. حياة تدور في حلقة مفرغة: أنت تُدمّر وأنا أبني.. أنت تُدمّر مجدداً وأنا أبني (..) إلى أين سيمتد عالم العنف؟ كفى!».
رفيق الحريري، الذي أعاد بناء الوسط التجاري لبيروت، لينافس شارع «الحمراء» لم يكمل مهمة الترميم والبناء، فمعظم فنادق الوسط التجاري لا تزال أنقاضاً بشهادة صديق زار بيروت مؤخراً. بالذات «برج المرّ» الذي كان أعلى مبنى كأنه علبة كبريت واقفة بطبقاته الـ30، بقي على خرابه حتى الآن.
إلى «عين» على المخرج السينمائي البريطاني كِن لوش، الحائز سعفة ذهبية في مهرجان كان 2016 للمرة الثانية، وهو صديق الفلسطينيين، وحضر ربع ساعة من فيلم وثائقي قيد الإعداد عن عملية ميونيخ 1972، لمخرجه الصديق نصري الحجّاج.
أغلب الظنّ أن ربع الساعة تحكي شهادة الفدائي القديم جمال الكويكاتي، الناجي الوحيد من العملية، والوحيد على قيد الحياة الآن «هذه فرصة لمشاهدة الفعل الإنساني الذي يجعل الفلسطينيين شعباً كبقية الشعوب (..) إسكات الصوت الفلسطيني في بلدي ليس حادثاً عابراً» قال.
أين يقيم جوزيف طرّاب الآن؟ على الأغلب في فرنسا، كما قال عضو الأكاديمية الفرنسية أمين معلوف، الذي أثار «هوجة» لأنه تحدث في الثقافة إلى محطة تلفاز إسرائيلية، علماً أن كتبه كافة عن مراكز الحضارة ما قبل وبعد العربية ـ الإسلامية ـ اليهودية. يقول في كتابه «حدائق النور» إن الأفكار «ستكون على الدوام ملتبسة، كما ينبغي أن تكون العلاقات بين حملة الأفكار وحملة الصولجانات».
إن «أفروديت» اليونانية هي «أناهيتا» لدى الفرس و»إيزيس» لدى المصريين، و»فينوس» لدى الرومان، و»اللات» لدى العرب.
ومن المزامير مفتتح الرواية: «الحجر الذي رفضه البناؤون سيكون حجر الزاوية» قصة العالم واليهود والفلسطينيين؟!
***
الفصليات الثقافية تعمّر فصول سنوات قصار ثم تتوارى، ونرجو أن تعمّر «بدايات» سنوات طوالا، لأنها المجلة الثقافية العربية الأفضل.