حسن البطل
بين 29 ـ 12 ـ 2015 و 19 ـ 1 ـ 2016 انتقلنا من عام لآخر، وأيضاً من شهر لآخر. لكن، وأيضاً، من الهدم الـ 92 إلى الهدم 93 لقرية العراقيب البدوية في النقب. هذا جانب من قصة دولة إسرائيل مع الجغرافيا والديمغرافيا الفلسطينية.
في 16 ـ 1 ـ 2016 رفضت محكمتهم العليا إعادة النظر في قرارها تهجير سكان قرية أم الحيران، وأكدت هدمها، وإقامة مستوطنة «حيران» اليهودية مكانها. هذا جانب آخر.
الجانبان جزء من خطة تهويد، أو استكمال تهويد زاحف للجليل والنقب (كما الضم الزاحف للضفة!)، عبّر عنه أول رئيس وزراء إسرائيلي، دافيد ـ بن غوريون بقوله: مستقبل إسرائيل في تهويد الجليل والنقب.
كم مرّة، في الأسطورة الإغريقية، رفع سيزيف الصخرة المتدحرجة إلى التلة؟ لأن سكان قرية العراقيب أعادوا بناءها 92 مرّة؟
قصة دولة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في جانب مكمّل آخر، حيث كثير من المستوطنات اليهودية تأخذ الاسم القديم الفلسطيني ـ الكنعاني، وتطلقه محرّفاً، كثيراً أو قليلاً، على المستوطنات، بدعوى أن الاسم الكنعاني محرّف عن الاسم التوراتي أحياناً (سطو عبري على التراث الكنعاني).
من عام النكبة إلى أعوامنا هذه، تقول إسرائيل إنها بنت زهاء ألف قرية ومدينة ومركز سكاني يهودي، لكن لم تبن ولا حتى مدينة أو قرية عربية جديدة، علماً أن 380 ـ 450 قرية فلسطينية مهجورة أو مدمرة، أقيمت في مكانها قرى ومدن يهودية.. أو منع سكانها من العودة إليها.
ما الفرق بين «أم الحيران» و»حيرن»؟ إنه استلاب الاسم والمكان، وقلب الديمغرافيا من عربية إلى يهودية.
هذه العملية، سواء ضمن دولة إسرائيل، أو ضمن المشروع الاستيطاني في الضفة، هي نمط فريد من الاستبدال، بدءاً من إلغاء اسم فلسطين إلى اسم إسرائيل، إلى تفاصيل المكان وديمغرافيته وجغرافيته.
بعض الولايات الأميركية والأنهار والجبال، لا تزال تحمل الاسم القديم الذي أعطاه لها «الهنود الحمر» أو السكان الأصليون. نحن نقول «مضيق جبل طارق» ويقولون «جبلتار» لكن الأمر يختلف كثيراً بين «أم الحيران» و»حيرن»، أو بين اشبيلية و»سيفيليا».
هذا أكثر من «احتلال» إنه «إحلال»، وأظنّ أنني أول من أدخل للاستعمال الفلسطيني كلمة «إحلال». متى؟ منذ قرأت ما قاله موشي دايان في مناسبتين، قبل حرب حزيران 1967 وبعدها.
قبل حرب حزيران قُتل مستوطن أو مستوطنة إسرائيلية قرب حدود قطاع غزة، اسمه أو اسمها روعي أو «روعيه». في رثائه قال دايان: هنا كان استيطان عربي وهنا صار استيطان يهودي. نحن نحوّل بلداً عربياً إلى بلد يهودي!
لكن في خطاب شهير ألقاه دايان، بعد حرب حزيران، عام 1969، أمام «التخنيون» قال ما نصه:
«لقد جئنا هنا إلى بلد كان آهلاً بالعرب، ونحن نبني هنا دولة يهودية عبرية. في جزء لا بأس به من النواحي، اشترينا الأراضي من العرب. ولقد شُيّدت قرى يهودية مكان القرى العربية، وأنتم حتى لا تعرفون أسماء هذه القرى، وأنا لا ألومكم على ذلك، لأن كتب جغرافيتها لم تعد موجودة، وليس فقط في الكتب، بل القرى ذاتها لم تعد قائمة. نهلال Nahalal أقيمت مكان مهلول. غفعات مكان جيتا، ليس ثمة ولا مستوطنة واحدة لم تقم مكان قرية عربية سابقة» (المصدر: دايان 9 آذار 1969 ـ «هآرتس» 4 نيسان 1969).
لماذا الاقتباس الطويل؟ لأن أوري ديفيس نشره، وفق المصدر العبري، في كتابه الطازج، بالعربية «إسرائيل الأبارتهايدية».
أيضاً، لأن دايان «بطل إسرائيل» في حرب 1967، ولأنه ولد في نهلال قبل إقامة دولة إسرائيل، أي أن مشروع تهويد المكان سبق إقامة الدولة العبرية.
***
كيف ستقوم دولة إسرائيل بتهويد النقب؟ ليس فقط بـ 40 _ 50 قرية بدوية غير معترف بها، وبعضها أقيمت قبل إسرائيل بسنوات طويلة، ولا بمشروع «برافر» للتهويد، بل بنقل قيادة الجيش الإسرائيلي من»القرياه ـ القرية» في تل أبيب إلى النقب، ونقل مصانع الكيماويات من حيفا إلى النقب، وبيع أراضي «القرياه» و»بي ـ غليليوت» بسعر فاحش، لتمويل إقامة المستوطنات اليهودية في النقب.
.. أي كما يجري في الضفة من تحويل «المعسكر» إلى مستوطنة (بيت إيل أبرز مثال)، أو أن «تهويد النقب» له علاقة بتهويد المنطقة (ج) في الضفة.
أُم الحيران والعراقيب والمستوطنات اليهودية في الضفة تختصر قصة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. هذا ليس استعماراً كولونيالياً. هذا استبدال.. وهذا الاحتلال اسمه «إحلال».