«إمّا أن يحطّم العالم داعش، أو تحطم داعش العالم» هكذا اشتطّ زميل مفكّر، موزون عادة، في تعقيبه الفوري على الضربة الداعشية، متعددة الرؤوس، في باريس.
لا أعرف، لماذا أتذكّر، قبل فورة هذا الارهاب، جزع العالم في ثمانينات القرن المنصرم، من «الإيدز» ـ (السيدا بالفرنسية)، أي نقص المناعة المكتسبة.
هل توالي تركيز الضربات الارهابية في فرنسا يعود لسبب إصرارها على تنحّي بشار الأسد، كما كتب مدوّن آخر، أم لأن الأصولية الإرهابية تجد في فرنسا العلمانية نقيضها كما أعتقد أنا؟
ضربة الأمس، الباريسية، هي الأكثر وقعاً وليس فتكاً، وجاءت قبل أسبوعين من مؤتمر قمة دولي حول الحدّ من احترار جوّ الأرض، وهو الأهم منذ مؤتمر ريو دي جانيرو التأسيسي، وفيه سيقدم رئيس أميركا خطته، لأن بلاده هي الملوّث الأكبر، والصين هي الملوّث الثاني.
هل ستنعقد قمة باريس للمناخ في موعدها ومكانها أم لا، أم أن ضربة ارهابية لاحقة ستؤجّل موعد القمّة ومكانها؟
أظنّ أن عواقب احترار جوّ الأرض تهدّد الحضارة الإنسانية والبشرية أكثر من «بربرية» الأصولية، وربما كان الخوف من «الإيدز» يفوق، في حينه، الخوف من الارهاب الأصولي.
هناك خوف آخر يطلّ برأسه، ويهدّد الحياة البشرية، وهو زيادة المناعة المكتسبة للجراثيم والبكتيريا، جرّاء الإسراف في استخدام المضادات الحيوية، التي حدّت من موجات الطاعون والجذام مثلاً، وأهلكت مئات ملايين البشر.
ما الذي كان يتهدد المصير البشري في أزمان ما قبل الديانات السماوية وسبقت الثورة الصناعية؟ كانت الأسطورة تتحدث عن «فرسان القدر»: الحروب، الأوبئة، القحط، الفيضانات، المجاعة.. وما لا أذكر من فرسان القدر السبعة.
من بين «فرسان القدر» هؤلاء، سيطر البشر على الأوبئة المهلكة والمعدية (الطاعون والجذام مثلاً، وإلى حد كبير السل وشلل الأطفال وحتى الأنفلونزا، وكذلك، وبواسطة الهندسة الوراثية أولاً، والتعاون الدولي ثانياً، تمّ الحدّ من المجاعة بسبب نقص المحاصيل اكثر من نتائج الحروب في تسبيب المجاعة.
يبدو أن الحروب سترافق البشرية إلى أمد غير منظور، وقد كانت في مرحلة مضت حروباً شنها الرجل الأبيض على أقوام العالم الجديد في قارة أميركا واستراليا مثلاً، ثم الحروب الاستعمارية، فالقومية.. والآن الحروب الدينية والمذهبية، وأمّا الحرب الذرية فقط طُويت صفحتها بعد سطرين في هيروشيما وناغازاكي.
قبل مئات السنين، لاحظ باحث غربي دارس، أن دول المشرق، وبالذات العراق والشام، كانت تقدّم تعايشاً مدهشاً للأديان والمذاهب والقوميات، بينما كانت أوروبا غارقة، أولاً، في الحروب المذهبية (كاثوليك ـ أرثوذكس ـ بروتستانت) والقومية والاستعمارية، وكانت ضحاياها مئات الملايين.
الآن، يبدو أن الأمور انقلبت إلى نقيضها، منذ الحرب القومية ـ المذهبية العراقية ـ الإيرانية، إلى الحرب الأهلية في أفغانستان، فإلى «القاعدة» ثم 18 فصيلاً إرهابياً، إسلامياً، يتصدرها الآن تنظيم «داعش» الأصولي ـ الأرهابي ـ البربري، وعدد ضحاياه، في كل حالة، لا يقاس بضحايا الحروب المذهبية الأوروبية، ولا الأوبئة، ولا الحروب الاستعمارية والقومية.
ليس كل المسلمين أصوليين، ولا كل الأصوليين إرهابيين وضحايا هؤلاء من المسلمين يفوق ضحايا الإرهابيين الأصوليين من غير المسلمين.. ومع ذلك، فإن الإسلام هو من يتهم بالإرهاب الديني ـ الأصولي، مع أن دار الإسلام صارت دار حرب أكثر من دار الكفار. هذه عدوى تنتشر!
كما نجح العالم في الحرب على الأوبئة والمجاعة، وكذا حدّ من «الإيدز» وسيحدّ من تمرّد مقاومة ومناعة البكتيريا والجراثيم على المضادّات الحيوية، فإنه سينجح في هذه الحرب على الإرهاب الأصولي والديني والمذهبي، كانت بداية القصة في أفغانستان، عندما حرفت أميركا الحرب الأيديولوجية إلى حرب دينية، وكانت مثل «نافخ الكير».