حسن البطل
ما الذي نفعله آخر الليل قبل الرقاد؟ نطفئ النور إما بنفخة زفير على ضوء السراج أو كبسة زر على الكهرباء. ما الذي فعله ابن أختي محمد في آخر يوم، آخر ليلة، وآخر دقيقة وثانية في العمر؟ هل مج آخر نفس في سيكارته، أم تركها مشتعلة؟ هل ارتشف آخر ما في كأسه، أم ترك بقية في كأس شايه أو فنجان قهوته؟ هل أنهى قلمه مقالته أم تركها في أولها وقبل آخرها .. لا أدري؟
أطفأ زر النور فأسدل ستارة السواد؟ يد الموت نابت مد يده وأطفأت زر النور .. وأسدلت على حياته موت البياض.
يقولون أن موتاً كهذا هو الموت بلا وجع، أي صعقة في الدماغ، سكتة دماغية صاعقة هي الأدهى والأسرع من الجلطة. لا ليس موتاً سريرياً كالذي أنهى حياة أخته إنعام أم ليلى قبل عام وطال موتها عاماً كاملاً. بل موت كموت جدّه مصباح أبي، بسكتة دماغية صاعقة، بعد ضحكة مجلجلة. وكموت أبيه محمود بسكتة قلبية صاعقة في نومه بعد صلاة الصبح.
سأقول، في موت ابن أختي د. محمد محمود البطل أنني أشتهي موتاً كموته، ولن أقول ليت لي في موتي أعيش حلماً كحلمه. لماذا؟
يقولون أن الموت الحقيقي هو موت الدماغ، ويموت الدماغ بعد موت القلب بدقائق أو ثوان (المخلوق دماغ وذيل طويل). يقولون هكذا يكون للموت لون البياض. هكذا يكون البياض لون الحلم الأخير: شريط العمر يكر من ثماني ثوان.. لذا من يموت موت صعقة الدماغ ترى على وجهه ابتسامة السلام الموتي الأبيض والبهي.
اذا توقفت دقات القلب دقيقة واحدة او دقائق قد تجد من ينعش القلب بالتدليك او بصعقات الكهرباء.. لكن إن مات الدماغ بسرعة انطفاء النور؟
قالوا: أرى الموت خبط عشواء. قالوا: تعددت الأسباب والموت واحد .. لكن، ما من حياة تشبه حياة، وما من موت يشبه موتاً، وأقسى الموت أن يموت الزوج مبكراً بسكته قلبية، وأن تموت الابنة مبكراً موتاً سريرياً طويلاً بسكتة دماغية، وان يموت الابن بسكتة دماغية صاعقة .. وأختي زينب كبرى أخواتي، أمي الثانية بعد موت أمي مات زوجها في حياتها وابنتها وابنها في حياتها.
جعلتني أختي زينب خالاً لأولادها؛ وجعلني أخي عبد الرحمن وأخي حسين عماً لأولادهما .. وها قد صُرت "سيدو" لحفيدتي الأولى، وصارت أختي جدّة - الجدّة لبقية أحفاد بناتها، وصرتُ آخر أولاد مصباح من الذكور، بعدما مات الصغير فدائياً، والكبير مات بسكتة دماغية غير صاعقة، ثم شلل جزئي .. ثم موت.
كان محمد وحيد أبويه من الذكور، وكان معفى من الخدمة العسكرية في سورية، لكنه حارب في لبنان، وحكى لي في بيروت كيف سار ورفاقه ٦٠ كيلومتراً على الأقدام من معلولا لبيروت ليدافع عن الثورة والشعب.
المقاتل صار طالباً في روسيا مع شقيقته، والطالب صار دكتوراً في الفلسفة الماركسية، والدكتور صار منظراً والمنظر صار زميلاً لي في حرفة القلم .. ثم، في آخر ليل من نهار حياته القصير (٥٦ عاماً) لم تمتد يده لتطفئ زر النور، بل امتدت يد الموت الصاعق واطفأت دماغه!
وقف أديب وشاعر ومناضل في بيروت يرثي مناضلاً قائداً وطبيباً: أبكي غيابك أم غيابي / وحصانك الفضّي يصهل أمام بابي" .. ثم صهل حصان الموت وحمل الأديب والشاعر المناضل الذي مات بالرصاص اغتيالاً جباناً.
لا أحد يختار ولادته. لا أحد يختار مكان موته. البعض يختار سبب موته، وأنا اختار أن اشتهي موتاً كموت ابن أختي؛ سكتة دماغية صاعقة تجعلني أحلم حلم الموت لمدة ثماني ثوان. جميعنا يحلم في حياته، والبعض يحلم حلمه الأخير في موته.
إذا أطفأت يدك زر النور - سواد ونوم الى نهار آخر. إذا أطفأت يد الموت زر النور - بياض ونوم نومة الأبد. لن يكون لي حلم كحلم محمد بعد ان انطفأ دماغه، وأشتهي موتاً كموت محمد. أن يتوقف القلب عن الوجيب؟ هذه فاكهة من فواكه الموت. أن يتوقف الدماغ عن العمل هذه هي فاكهة الموت الحقيقية.
يقولون: من خلّف ما مات.. ولكن محمد تزوج ولم يخلف، وأمه خلفت أولاداً خلفوا أحفاداً، وخلفتها المباشرة كانت دكاترة في الفلسفة وفي الطب .. وفي الرياضيات المجردة.
"في آخر البياض فتحت عيني رأيت عظامي بيضاء جداً" هكذا قلت.
في آخر البياض أغلق عينيه ورأى حلمه الأبيض .. هكذا مات محمد.
يقولون إن في جنات الخلد فاكهة - الفاكهة، وأنا أشتهي في الحياة فاكهة الموت بسكتة قلبية صاعقة، أو بسكتة دماغية صاعقة. ما حاجتي إلى أرذل العمر؟