حسن البطل
في مراقص الديسكو تتغيّر الموسيقى، فيتغير إيقاع الرقص ويخرج راقصون ويدخل آخرون.
يقولون: «الحياة مسرح كبير». هل موسيقى الرقص جزء من مسرح صغير؟ الأيديولوجيات ترقص أو تخرج من الرقص. الاستراتيجيات ترقص على موسيقاها.
كان السؤال الماركسي الكلاسيكي هو «ما العمل؟» يبدو أن جواب الماركسيين الجدد هو «استراتيجية جديدة». ربما ليس حذاءً جديداً، فليكن إصلاح الحذاء «نص نعل» أو «ميّالة» لاهتراء كعب الحذاء.
يقولون، مثلاً: إن استراتيجية أوباما الأميركية الجديدة هي «استراتيجية خروج» من دور «الشرطي العالمي» وأن استراتيجية بوتين هي «استراتيجية عودة» إلى الإمبراطورية السوفياتية؟!
لشاعرنا محمود درويش أن يقول: يجب الذهاب إلى اليمين/ يجب الذهاب إلى اليسار/ يجب الدفاع عن الغلط/ يجب الذي يجب.
فوضى خيارات؟ ربما، مع أن خيارين سيئ وأسوأ قد يكون أحسن من رهان على خيار وحيد يبدو جيداً. هل كانت أوسلو خياراً بين سيئ وأسوأ؟ هل حل السلطة خيار مطروح؟ أم «حوار وطني شامل» للوصول إلى «استراتيجية جديدة» فلسطينية هو الخيار؟ زمان كان «توحيد العمل الفدائي» شعاراً استراتيجياً، وكانت التعددية الفصائلية خياراً واقعياً، أو اضطرارياً، أو تعددياً ديمقراطياً في اطار «م.ت.ف».
هل يستطيع الفلسطينيون وضع استراتيجية جديدة للخروج من ما يبدو «مأزق أوسلو»، علماً أن هناك «التكتيك» لحركات التحرر وهناك «الاستراتيجية العليا» لقوى عالمية كبرى.
كان خروج بيروت 1982 مأزقاً للكفاح المسلح كاستراتيجية، وقبل الانتفاضة الأولى قام خبراء في مركز التخطيط ـ م.ت.ف بوضع «استراتيجية» على الورق وقدّموها لياسر عرفات، الذي قرأها ثم قال: «انقعوها واشربوا ماءها».
كل استراتيجية يجب أن تتوفر لها عواملها من قوى بشرية، وعسكرية، واقتصادية، وسياسية، ولا تستطيع الإدارة الفلسطينية التي تحدّت موازين القوى الإقليمية أن توفرها لرسم «استراتيجية جديدة».
هل كان قصور حرب اكتوبر 1973 مسؤولا عن «استراتيجية» برنامج النقاط العشر 1974؟ هل كانت هزيمة العراق 1991 مسؤولة، ومعها الانهيار السوفياتي، عن الذهاب لمؤتمر مدريد؟
إذا قال عرفات: انقعوها واشربوا ماءها، فهو اغتنم ريح الانتفاضة الأولى، وبدلاً من شعار حصار بيروت «هبّت رياح الجنّة» قال: هبّت رياح حرية فلسطين، وأعلن المجلس الوطني «وثيقة استقلال دولة فلسطين» تعرفون لماذا وكيف اندلعت الانتفاضة الثانية المسلحة، وصار الشعار «شهيداً.. شهيداً».. لا طريداً ولا أسيراً!
كان أستاذ في العلوم السياسية قد نظّر لخيار «حلّ السلطة» ثم صار وزيراً، والآن عاد جزئياً إلى خياره بعد تعديله إلى خيارين: «حلّ السلطة» و/أو «العمل ضمن اتفاق أوسلو».
هناك خيار «الحلّ بدولتين»، وخيار «الدولة الواحدة»، وخيار «الكونفدرالية».. وبالطبع، خيار «استراتيجية جديدة» فلسطينية، من نقض أوسلو، إلى برنامج استراتيجي يفترض أن يكون ثمرة «حوار وطني شامل» وصار رهناً بتفعيل م.ت.ف ومؤسساتها، لأن المفاوضات والمقاومة المسلحة لن يحققا الدولة الوطنية المستقلة.
يا سادة، ترون مخطط عمارة على الورق، وصورا حاسوبية للعمارة، غير ما ترونها عمارة مبنية، ولو بتشطيب «دو لوكس» في الإعلانات!
زميل في «الأيام» كتب أن على المجلس الوطني المقبل أن يتخذ جملة من ثمانية قرارات تشكل، في رأيه، وبمحصّلتها «استراتيجية جديدة» وتجمل «كل الأوراق المحلية، والعربية، والإقليمية، والدولية وتوظفها في مجرى الكفاح الوطني لإنجاز الحقوق الفلسطينية»!
نعم، لدينا «أوراق فلسطينية» لكن الأوراق العربية والإقليمية والدولية خارج قدرة المجلس الوطني على جمعها في يديه المباركتين، هذا إن لم تكن هي المؤثرة (وخاصة الإسرائيلية) على الورقة الفلسطينية!
من زمان، وأنا أقول لدعاة «الاستراتيجية الجديدة» الفلسطينية، إننا نجحنا في ما حلم به الفيزيائيون من اختراع مادة «مضادة للجاذبية» أي للاستراتيجية، وأننا جعلنا المصير الفلسطيني مشتبكاً مع المسار الإسرائيلي، وبالعكس!
السلطة ليست دولة سيادية بعد، لكنها حدّدت حدود دولتها؛ وإسرائيل الدولة القوية استراتيجياً إزاء فلسطين لا ترسم حدودها السيادية، ولا حدودها الأمنية.
الموسيقى تغيّر إيقاع الرقصة، وموسيقى موازين القوى تغيّر استراتيجيات الدول، وليس برامج استراتيجية على الورق.
«انقعوها واشربوا ماءها»؟!