يمكن لدوائر القرار السياسي الفلسطيني والعربي أن تتابع بتحليل معمّق ما يصدر في الشهر الأول من كل عام، عن المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية، لكي تتعرف إلى أولويات واتجاهات التطور العسكري والسياسي في إسرائيل خلال العام.
المؤسسة السياسية العربية عموماً بريئة من هذا التقليد، ذلك أن السياسة تصدر عن الزعيم الأوحد ملكاً كان أم رئيساً، ما يجعل السياسة تجارة "بالقطاعي"، يتحكم فيها المزاج الشخصي، وردود الفعل.
وتمتد هذه الخطيئة في سلوك العرب، لتؤكد أن القضية الفلسطينية، وقضية الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي ليست في مكانها السليم، ما يدل أيضاً على غياب الوعي العربي عن حقائق الصراعات والتضاربات في المنطقة وعليها.
في أحسن الأحوال، تخضع المنتوجات الفكرية للمؤسسات الإسرائيلية إلى الدراسة من قبل بعض الجهات الاستخبارية في عدد قليل من الدول العربية، ولكن نتائج واستخلاصات مثل تلك الدراسات لا تدخل مطبخ القرار السياسي، وإن دخلت فإن ما يدخل منها في حسابات القرار هو ما يتعلق بأمن تلك الدولة.
خلال الأيام القليلة الماضية صدر في إسرائيل ما يعرف بتقرير الأمن القومي الاستراتيجي، الذي يحدد مصادر وأولويات المخاطر والتهديدات التي من المتوقع أن تواجهها الدولة خلال العام 2016.
الجزء الأكبر والأهم من التقرير، يتحدث عن أولوية الخطر الإيراني وما يسمونه الحلقات المرتبطة به، وهي سورية، وحزب الله.
الخطر الإيراني بالنسبة لإسرائيل ماثل في مقدمة المخاطر الأخرى حتى بعد اتفاق فيينا، وهو لا يرتبط فقط باستعداد إيران وقدرتها على تطوير برنامجها النووي، بل أيضاً بتنامي قدراتها الاقتصادية والعسكرية، وبالاختراقات التي تحققها إيران وحلفاؤها في المحيط القريب من الدولة العبرية.
لا تنتظر إسرائيل، أن تعلن إيران الحرب عليها، حتى تتجند وتجند تحالفاتها من أجل مواجهة هذا الخطر، بعيد الاحتمال، لكنها تحضر نفسها لما يمكن أن يأتي به قادم السنوات وربما العقود وما يعني أن إسرائيل ستعمل فوراً وبصورة مستمرة على إبعاد هذا الخطر.
ابتداءً ستواصل إسرائيل تحريض حلفائها ضد إيران، وستعمل بطرق وأساليب مختلفة على مراقبة أي خرق إيراني للاتفاق والتحريض على سعي إيران لتطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية من خارج دائرة الفعل النووي.
وكمثال مستعجل، بادر بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة لفرض عقوبات جديدة على إيران بسبب تجاربها في ميدان تطوير الصواريخ الباليستية، لكن هذه الدول الحليفة لإسرائيل تتواطأ كل الوقت مع التجارب الإسرائيلية، ومع الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، وهي تتواطأ مع إسرائيل التي تمتلك قدرات نووية منذ عقود طويلة.
الخط الثاني الذي تعمل عليه السياسة الإسرائيلية لتحجيم الخطر الإيراني وتأجيله، يتصل بموقف إسرائيل من الصراع في سورية حيث ترفض بقاء وتعافي نظام الأسد، حتى بعد أن تحولت السياسة الغربية في اتجاه البحث عن تسوية سياسية لا تشترط التخلص الفوري من الرئيس بشار الأسد ونظامه.
وعلى مدار الساعة تراقب إسرائيل، وهي مستعدة لمواجهة أي محاولات من قبل النظام السوري، لتمكين المقاومة من بناء قواعد لها في منطقة الجولان استعداداً لتنشيط هذه الجبهة التي تميزت بهدوء شامل منذ حرب تشرين العام 1973.
كان آخر الشواهد على هذه السياسة التي تعكس مخاوف إسرائيلية، القصف الذي استهدف الشهيد سمير القنطار، الذي لم يكن وجوده في المنطقة كسائح.
في المشهد، أيضاً، ان على إسرائيل أن تحضر نفسها لمواجهة حزب الله، الذي حمّلت بطريقة مباشرة الدولة اللبنانية المسؤولية عنه، وهددت بضرب وتدمير البنية التحتية للبنان.
يشير التقرير إلى مهمة متكررة، جرى تبنيها في تقرير العام السابق وهي أن على إسرائيل أن تشجع وتدعم تحالفا سنيا معتدلا في المنطقة، وتعتقد أن مخاوف بعض العرب من الخطر والتهديد الإيراني يبرر لها الاعتقاد بإمكانية أن تحقق اختراقات سياسية في العلاقة مع هذه الدولة على خلفية مواجهة خطر مشترك.
في حسابات السياسة الإسرائيلية للعام الحالي بحسب التقرير، تسعى إسرائيل إلى فتح مسار تفاوضي للبحث في حلول مرحلية مع السلطة الفلسطينية ما يرمي فقط إلى محاولة ترميم العلاقات مع حلفائها الغربيين، أي شكلا من أشكال المجاملة، دون أن ينجم عن ذلك أي تغيير في السياسة الإسرائيلية التوسعية، أو التحول نحو تسوية على أساس رؤية الدولتين.
أما المسار الثاني في السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، فيتعلق بمعالجة حربية للتهديدات التي ينطوي عليها قطاع غزة، ودون أن يعتبر التقرير هذه التهديدات على أنها تنطوي على خطر يستحق أن يقف ضمن أولوياتها الاستراتيجية، وفي الواقع فإن التعبئة الجارية في إسرائيل تشير إلى أن هذه المهمة عاجلة وليست مؤجلة والأرجح أن تتم قبل أن تبدي إسرائيل استعدادها لفتح المسار التفاوضي.