حسن البطل
تقرؤون عن رسالة بريدية ضلّت عنوان المرسل إليه عدة عقود، أو زجاجة مغلقة على رسالة قطعت المحيط في عقود أطول.
لزميلي المحتجب عن مقالته الأسبوعية، يوم الجمعة، في زاوية "دفاتر الأيام" قصة شخصية عن سجاياه عن كتاب استعاره من مكتبة بلدية رام الله، قبل 33 سنة، وسافر بعد النكسة الحزيرانية من مدينته وبلاده، ولما عاد إليهما في العام 2000 ردّ الأمانة إلى المكتبة. هذه قصة لم يذكرها صاحب "المقال الأخير: أقول وداعاً" يوم الجمعة الأخيرة من هذا الأيار الحافل، وبدأها بعبارة: "لكل حياة موت، ولكل بداية نهاية"، وبعد 16 سنة من انقطاع لا يذكر، قال فاروق "وداعاً" وقال هذا "لكل من قرأني وأحبّ ما كتبت، ولكلّ من قرأني ولم يكن على وفاق ما أكتب". بهذه الروحية السامية أعاد كتابا استعاره بعد 33 سنة.
لجريدتكم "الأيام" أسرة تحرير صغيرة وتصغر بفعل إعادة الهيكلة، ولها عائلة ممتدة، ولبعض العائلة أعمدة أسبوعية، وعمود فاروق من أكثرها انتظاماً، وسيترك احتجاب مقالته ثغرة في زاوية يتداولها، يومياً، سبعة كتّاب، أو خمسة حالياً.
كان هناك، في زاوية الصفحة الأخيرة، من احتجب لسببٍ وجيه أو دون سبب بدافع الملل، وكان هناك من غاب لأن الموت غيّبه، مثل الزميلين خليل السواحري، وعزت الغزاوي ولم يقولا للقرّاء: وداعاً، وكان هناك المواظب على التأليف والكتابة الصحافية علي الخليلي الذي قال وداعاً لزاويته الأسبوعية المنتظمة "أبجديات".
لا وقت، وربما لا طاقة، لليومي مثلي أن يدبّج مقالة أسبوعية "شغل إبرة" كما يفعل معظم زملائي من كتّاب الأعمدة الأسبوعية، أو حتى نصف الأسبوعية. أكتب "رشقاً" ويكتبون "دراكاً" أي طلقة طلقة بالقنص!
بتعبير آخر، أكتُب بيد حرّة ولكن كمن يمشي والأصفاد في قدميه، أو كمن راحتي قدميه في حذاء صيني مقاسه 32سم وعرضه 7,5سم، خلافاً لكتّاب الأعمدة والمقالات. هل أدركت سن الكلال بعد 42 سنة نصفها يومي ونصفها أسبوعي!
أشعر بتعاطف خاص مع زميلي فاروق، لا لأنه قال لقرّائه "وداعاً" بل لأن سبب الاحتجاب كاد يكون سببي الخاص في الاحتجاب، قبل أقلّ من عام، أي مشكلة في البصر لا في البصيرة، عندما أصاب عيني هذا الغشاء الأبيض، المسمّى "ماء أبيض"، خفت أن يصير "أزرق" ثم "أسود".. ثم أفقد حاسّة البصر، بعد أن فقدت حاسّة السمع. قد أنتحر!
هذا شخصي، لكن أشعر بتعاطف آخر مع المحتجب فاروق لأنه يكتب مقالته بأناة "شغل الإبرة" ويمزج العام الثقافي بالخاص الحياتي، أو يعجن الطحين السياسي في معجن الأدب، وقمة ما كتب وراقني في هذا المجال هو "منازل في القلب: كتاب رام الله"، كما فعل ابن رام الله أيضاً مريد البرغوثي في كتاب "رأيت رام الله".. عودة الابنين غير الضالين!
أنا رأيت حيفا"ي" بعد 47 عاما ونصف، وكتبتُ عنها كما أراها بعيني قلبي في "أطراف النهار" لا كما كتب عنها سواي، أوعاش حياته فيها.. ولديّ جملة أعمدة عن زياراتي الأولى للمكان الأوّل، أتركها مرتبة ومجموعة في ملف على حاسوبي من ستة ملفات أخرى، عسى أن يمهلني الوقت المتأخّر لأصير كاتب عمود أسبوعي، ولو أن واحداً من أفضل قرّاء عمودي، محمود درويش، حثّني على جمعها في كتاب بحياتي الفانية!
بعد سنة وقليل أدرك سن السبعين دون حكمة ميخائيل نعيمة في كتابه "سبعون". تقاعدت قبل سبع سنوات من الوظيفة، وفي إسرائيل يتقاعدون عن الكتابة الصحافية في سن الـ 67، وآن أن ينسحب عمود "أطراف النهار".. ولكن متى؟
كتب سعد الله ونُّوس كلاماً رائعاً عن سرطان الدماغ، ومثله فعل ممدوح عدوان وآخرون.. وكتب علي الخليلي عن موته الوشيك بسرطان العمود الفقري، وأهداني، شخصياً العمود قبل الأخير.. وأمّا زميلي فاروق وادي فكتب ما يشبه سرطان الظلام الذي يطغى رويداً رويداً، على حاسّة البصر، فيحرم الأديب والكاتب من خيرة حواسه. قال:
"إنها تأتي للعين المفتوحة على اتساعها لتخترق بؤرتها وتبثّ سائلها الزجاجي هناك، تدهمك بالحقيقة، ترى الإبرة وهي تنتهك عينك، يطفو سائلها في مكان ما من الشبكية العليلة، مثل بقعة هائلة من الجلسرين تتفشّى فوق سطح البحر وتصارع الماء، فتبدو كلقطة من فيلم خيالٍ علميّ، أو انفجار كونيّ مفترض."
***
لا أعرف كم حجب رئيس التحرير من مقالات فاروق على مدى 16 عاماً، لكنه حجب لي أكثر من 30 عموداً من 6602 عمود، وفي معظمها كان مُحقّاً.
كتبتُ رأياً عن مصر قبل انتخاب مرسي، لم يعجب فاروق الذي عاش في مصر ولم أزرها قط، فلم يزعل فاروق الذي ناوشني بقلمه مرهف المبضع لحجب مقالته.
الشيخوخة تسبق الموت، والمهم كما يقول فاروق أن لا تموت الكتابة قبل أن يموت صاحبها.. أو يسحب أطرافه عن "أطراف النهار" في ختام 42 سنة صحافية دؤوبة.
سلاماً للوداع يا زميلي فاروق. أدّيت الواجب ووفيت أديباً وكاتباً من رام الله إلى بيروت، ومن بيروت إلى رام الله فعمّان.. ومصر!
يقولون عن المتعوس: "أدركته حرفة الأدب" أو حرفة القلم!