لوجهها لون الحريق والعدس

لوجهها لون الحريق.. والعدس

لوجهها لون الحريق.. والعدس

 لبنان اليوم -

لوجهها لون الحريق والعدس

حسن البطل

أرى ما أريد على "صفحة وجهها": عشرون سطراً وأكثر. بتعبير آخر يقولون: حَفَر الزمان أيام سنواته على صفحة الوجه؛ ولصفحة وجهها لون الحريق القديم. هناك لون للزمن.. وهناك لون للألم.
صارت ابنة الـ 14 ربيعاً أُمّاً، وعلى وجه الأم أرى ما أريد من لون ذلك اليوم: 12 آب 1976. لابنة مخيم تل الزعتر هوية خضراء في رام الله، وعليها عمل يومي شبه رتيب تؤديه في هذه السلطة الوطنية الفلسطينية.. وأما ذلك المخيم الأسطوري، فلن يخلع زيّ لجوئه من مخيم كالح للاجئين الى جهنم للاجئين والمقاتلين.. فإلى زيّ اسطورة لا تحول ولا تزول.
لدير ياسين أسطورة السقوط في فلسطين؛ ولتل الزعتر أسطورة سقوط آخر في المنفى.. وللمنفى. وبعد يوم 12 آب 1976 صار شعارنا التعبوي كسيفاً: "القدس عروس عروبتكم". كيف ينجدون القدس، وقد انتهكوا حرمة المخيم في المنفى؟!
قبل ذلك اليوم، كانت قذائف المدفعية تقدم، من بيروت الغربية. الإسناد الناري للمخيم الفلسطيني المُحاصَر في أقصى أطراف بيروت الشرقية. جولة حصار تلتها جولات من حصار أشد إحكاماً، وبطولة أشد بأساً.. ويأساً.
بين حصار وحصار، أعاد مكتب الرئيس (مكتب الـ 17) إلينا نسخة من جريدة "فلسطين الثورة" اليومية، مذيّلة بتوبيخ من القائد العام أبو عمار، وبالقلم الأحمر: "من الخطأ المطلق التركيز المطلق على الصمود المطلق". .. وكان "مانشيت" الجريدة: "تل الزعتر لن يسقط".
ظهيرة ذلك اليوم: 12 آب 1976 مرّت الشاحنات محمّلة بالأطفال والنساء؛ العجائز والكهول.. ومحمّلة بالعويل. سقط التل الذي لا.. ولن يسقط! وأما أبطال المخيم، فقد شقوا الحصار ببنادقهم ودمهم...
أرى ما أريد على "صفحة وجهها"، وكان لأطفال التل، يوم عبروا تحت نوافذ مكاتبنا في منطقة الجامعة العربية، كل ألوان الخوف والجوع.. وربما لون العدس.
اكتشف المحاصَرون في التل الأسطوري أن حساء العدس أفضل بديل ممكن عن الحليب. كان العدس وفيراً في مخازن الوكالة (الأونروا) وكان الماء شحيحاً جداً.. وكانت مصادر الماء على حدود المخيم. سقط الكثيرون من خيرة المقاتلين وأصلبهم وهم يردون الماء. يشقون الحصار ببنادقهم.. وفي أيديهم كل وعاء يصلح لنقل الماء. "كل كوب ماء كان ثمنه كوباً من الدم".. أحياناً؟!
تلك المعادلة بين الماء العربي والدم الفلسطيني ستكون أقسى على النفس من كل معادلات التحالف اللاحقة مع سورية.. والقوات السورية في لبنان، بما فيها كذبة "التحالف الاستراتيجي".
في وقت لاحق، بعد سقوط "تل الزعتر"، ستذهب معظم القيادة الفلسطينية الى دمشق، في محاولة أخيرة للتنسيق الثنائي لأن مصر "خرجت من المعركة" ودخلت "كمين كامب ديفيد". لم نصدّق كذبة "التحالف الاستراتيجي". لم نضع خبر توقيع التحالف عنواناً رئيسياً، بل قزّمناه خبراً صغيراً أسفل الصفحة. مع ذلك، تلقينا التوبيخ الثاني القاسي من "مكتب الـ 17". كان علينا أن نتجاهل الخبر تماماً، حتى لو وزّعته وكالة "وفا" على الصحف اللبنانية.. التي ستخصّه، في اليوم التالي للتوقيع، بعناوين رئيسية: "توقيع اتفاق في دمشق للتحالف الاستراتيجي بين سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية".
كان سقوط تل الزعتر إشارة سقوط واضحة. هذا مخيم امتحن التزام سورية بالنضال الفلسطيني.. فسقطت في ذلك الامتحان. المخيم الفلسطيني في اللجوء العربي هو فلسطين في المنفى.. ثم سقط صبرا وشاتيلا مرتين: مرة بأيدي الكتائب وإسرائيل في أيلول العام 1982؛ ومرة ثانية بأيدي حركة "أمل" وسورية بعد ذلك بأربعة أعوام. وإلى أسطورة السقوط العظيم للتل الذي لا يسقط، أضيفت أسطورة السقوط الأعظم للمخيم الذي كان عاصمة الثورة واللجوء الفلسطيني بأسره.. بل عاصمة بيروت، وأحياناً عاصمة لبنان.
بعد سقوط تل الزعتر، امتلأت بيروت الغربية بالمتطوعين من طلبة فلسطين الدارسين في جامعات العالم من مانيلا في الفلبين الى كندا. قال القائد العام يومها في زفرة الأسى: "ها أنا أُطعم المدافع لحم خيرة شباب شعبي".
بعد سقوط تل الزعتر، ذهبتُ مع زوجتي منى الى بلدة الدامور التي احتلتها "القوات المشتركة" في عملية ثأرية لسقوط تل الزعتر. رفض اللاجئون من مخيم التل إصلاح نافذة واحدة. قالوا: هذه البيوت ليست لنا. ورفضوا جناية محاصيل الموز الداموري، أو العناية بحقول هي إحدى أخصب حقول لبنان. قالوا: هذه الأرض ليست أرضنا. اليهود أخذوا أرضنا ونحن لا نأخذ أرض أحد.
.. وكانوا على حق مزدوج: أخلاقي وعملي، فما لبثوا أن رفضوا فرصة "التوطين"، وعادوا الى مخيم صبرا وشاتيلا. عادوا الى صنع أسطورة سقوط عظيم آخر، تحت قيادة علي أبو طوق، أسطورة القائد والشهيد.
بعد 23 عاماً من سقوط تل الزعتر، يبدأ الفلسطينيون في بلادهم تسجيل التاريخ الشفوي للنكبة، كمقدمة لا بدّ منها لتسجيل التاريخ الشفوي للمنفى.
هناك كتاب "العمل والعمال في تل الزعتر" صدر، قبل السقوط، عن "مركز الأبحاث الفلسطيني" لابن تل الزعتر، الباحث هاني مندس؛ وهناك كتاب وثائقي عن سقوط التل صدر عن مركز الأبحاث أيضاً.
.. وهناك، أيضاً، لون العدس، ولون الحريق على صفحة وجه ابنة الـ 14 عاماً التي عاشت أيام البطولة والكارثة في تل الزعتر. إنها ست بيت الآن، ومواطنة، وأُمّ.. وعندما تقدم لي القهوة في رام الله أنظر الى "صفحة وجهها".. وأرى ما أريد؟!

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لوجهها لون الحريق والعدس لوجهها لون الحريق والعدس



GMT 16:45 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تحليل التحليل «السياسي»

GMT 16:42 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية منظمة التحرير!

GMT 16:39 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

هذه النغمة غير المُريحة

GMT 16:35 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

التغيير الدرامي لمسلمي وعرب أميركا تجاه ترمب

GMT 16:31 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

البحث عن «الفستان الأبيض» رحلة خجولة فى أوجاع الوطن!

GMT 16:27 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

عصافير عدّة بحجر واحد

GMT 16:21 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الانتخابات الأميركية والألبوم العائلي القديم

GMT 16:18 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

شوية كرامة بَسْ

إطلالات عملية ومريحة للنجمات في مهرجان الجونة أبرزها ليسرا وهند صبري

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:39 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

البدلة النسائية الخيار الأمثل لإبراز شخصيتك وأناقتك
 لبنان اليوم - البدلة النسائية الخيار الأمثل لإبراز شخصيتك وأناقتك

GMT 19:31 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح للعناية بنظافة المنزل لتدوم لأطول فترة ممكنة
 لبنان اليوم - نصائح للعناية بنظافة المنزل لتدوم لأطول فترة ممكنة

GMT 06:48 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

توقعات برج الميزان لشهر أكتوبر / تشرين الأول 2024

GMT 10:20 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

معرض الجبل للفن برعاية حركة لبنان الشباب

GMT 21:10 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

"أدهم صقر" يحصد برونزية كأس العالم للخيل في باريس

GMT 06:05 2024 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

مانشستر سيتي الإنكليزي يتصدًر قائمة أفضل 10 أندية فى العالم

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام

GMT 12:31 2022 الأحد ,10 تموز / يوليو

أفضل أنواع الماسكارا المقاومة للماء

GMT 17:22 2021 الجمعة ,23 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon