حسن البطل
تقريباً، نصف عمري القلمي انصرم في الصحيفة ـ المجلة المركزية، ونصفه الآخر تصرّم في هذا العمود، وفوقهما ثلاث سنوات محرراً في إذاعة فلسطين ـ بغداد، وبها انخرطت.
رسمياً، هي المجلة المركزية، لكن تحريرياً بقيت علاقتها لا مركزية مع المنظمة الناطقة باسمها. والسبب؟ لم يكن كل كادرها التحريري فلسطينياً، كما لم يكن كل محرريها فتحاويين جاء أغلبهم من أحزاب يسارية ـ قومية.
على هامش قمة لدول عدم الانحياز في هراري 1986 اشتكى لي ومني القائد العام: «هوامشك واسعة جداً.. شرقاً وغرباً. أنا أدفع ثمنها غالياً».
كم مطبّاً وكم تكويعة مع الختيار، منذ كنت محرّراً غير ملتزم فتحاوياً، إلى سكرتير تحرير، ثم مدير تحرير «بأمر كتابي» بقلم القائد العام صرت بموجبه عضواً في حركة «فتح» عام 1977. إنه يحكم بالقلم!
لكن، المرحلة القبرصية من عمر المجلة المركزية دامت 13 عاماً، كنت فيها، عملياً، رئيس تحرير تنفيذيا (أو «فيلد» كما يُقال في العسكرية) وكانت ملأى بالمطبّات، لأن المجلة صارت لا مركزية زيادة، ولو جغرافياً، أي في «فطام» شبه تام عن المرحلة البيروتية 1974ـ1982.
حقاً، لم أكن، قط، من الحلقة الإعلامية المقرّبة من القائد العام، كما كان حال مسؤولي أذرع الإعلام الموحّد الأربع. لكن.. ماذا؟
هوامشي الواسعة هي تغليب التزامي بالمشروع الوطني كما تقوده «فتح» على التزامي الحركي بها. وأيضاً، تغليب التزامي المهني ـ الصحافي على خط التزام التعبئة والدعاية الإعلامية.
لعلّ أقسى اختبار مرّ عليّ، كان مسؤوليتي بعد سقوط طائرة الرئيس في صحراء السارة الليبية، في وقت ضيّق جداً بين الحادث وموعد إغلاق عدد أسبوعي آخر، اعتدنا إقفاله مساء الأربعاء، ليشحن الخميس، ويكون بين أيدي القرّاء في العالم صباح السبت أو الأحد.
بين تأجيل العدد، وصدوره في موعده، قرّرت الخيار الثاني. كل شي جاهز: الغلاف صورة الرئيس، إلاّ شيء واحد هو زاوية «معكم» من 130ـ150 كلمة.
مسؤول طباعة المجلة ينتظر في المطبعة، ولديه كتابتان مختلفتان لـ «معكم». الأولى بما معناه «في ذمة الله» والثانية بما معناه «الحمد لله».
ثم، في الدقيقة الأخيرة قبل دوران الطباعة. صرخنا. قفزنا. تعانقنا، واتصلنا بمسؤول الطباعة: «الحمد لله». اللامركزية ـ الجغرافية الزائدة أوقعتني في مطب وتوبيخ من الرئيس «عصملية في راسك؟ بعد أن طرّاها الأتراك معنا، أنت تكتب زاويتك بعنوان: عصملية جديدة»!
والقصة؟ لأول مرة التقى الرئيس برئيس وزراء تركيا آنذاك بولنت أجاويد في بغداد، والسفير التركي هناك حمل العدد محتجاً لـ «الختيار».. وأنا تلقّيت تقريعاً قاسياً.
ماذا، أيضاً؟ في السنة الثانية للانتفاضة الأولى، كان هناك في تونس من اتهمنا بالميل إلى إبراز القيادة الميدانية للانتفاضة على القيادة السياسية للمنظمة، وبالذات لـ «فتح» وللمرة الأولى كان علينا أن نرسل صور العدد بالفاكس إلى تونس، التي حجبت مقالتين لي.
عندما حجب رئيس تحرير «الأيام» 21 عموداً «متفجراً» لي في سنتها الأولى قلت له: المجلة المركزية حجبت عمودين في 13 سنة. أيهما أكثر حساسية؟
ماذا عن المرحلة البيروتية؟ لا يعرف الناس أن «فلسطين الثورة» كانت تصدر مجلة أسبوعية، وجريدة يومية، أيضاً. الأولى للتصدير، والثانية محلية، وكنت أنتقل بينهما حسب الحاجة.
أثناء مسؤوليتي عن «اليومية» وقعت في اختبار مهني وسياسي حرج وحسّاس. كيف؟ بعد كامب ديفيد المصري ـ الإسرائيلي، ذهبت كل قيادة الحركة والمنظمة إلى دمشق ووقعت مع الرئيس الأسد «اتفاقاً استراتيجياً» كان خلاف «القرار المستقل» الذي ندافع عنه.
على غير عادتها وزّعت «وفا» آخر الليل الاتفاق في ملحق، لأنها مثل «نوفوستي» ونحن لسنا مثل «برافدا». سيل من استفسارات الصحف اللبنانية. سيل من الاتصالات أجريناها بأركان القيادة (التي أغلقت شبكة اتصالاتها).
في الخامسة صباحاً، وصلتنا الصحف اللبنانية وخبرها الرئيس على ثمانية أعمدة عن «الاتفاق» المفاجئ، ماذا فعلت؟
أمسكت القلم وكتبتُ خبراً من 10 ـ سم على عمود واحد ومحايد في أسفل الصفحة الأولى.
الرئيس اتصل، في اليوم التالي، متظاهراً بالاستغراب والاحتجاج والتوبيخ، ربما ليسمعه أركان في القيادة.. وبعد قليل اتصل وقال: «البركة فيكم.. أنتم تفهمونها على الطاير».
عندما قال لي عرفات في هراري: هوامشك واسعة جداً شرقاً وغرباً، قلت له: أما كان صاحب الهوامش يحذف عبارة في خطاباتك السورية عن «سورية أرض حافظ الأسد»؟ فضحك، ثم ضحك بعد أن قلت: كان الفيلم لطيفاً بينك وبين موغابي، عندما ترك لك رئاسة الجلسة، فور أن صعد عبد الحليم خدام إلى المنصة، وقال: «سيدي الرئيس».. فضحك الختيار ضحكة عريضة «أنت خبيث» قال؟
ماذا كتب محمود درويش في براءة حصولي على جائرة فلسطين في المقالة 1998؟ «على الرغم من أن آراءه تتعارض والاتجاه العام» !
.. هذا، كما يقال، غيض من فيض، وقد أستزيدكم منه، وخلاصته، إنه قائد يفهم في الرجال، حتى لو كانت هوامشهم واسعة، لكن أقلامهم مجنّدة للمشروع الوطني.