حسن البطل
أمي، شبه الأمية (رحمها الله)، ترى «النكبة» غير ما يراها يائير أورون، ومؤرخو وباحثو ومؤلفو ما يعرف بتيار «مابعد الصهيونية ـ بوست زيونيزم».
كانت أمي تقول: «حرق الأبدان ولا حرق الأوطان»، ويحاجج أورون في المؤلف الجديد والدسم، أن المحرقة والهولوكوست كانت «إبادة عرق جماعية Genoside وأما النكبة الفلسطينية فهي تطهير عرقي Ethnic clensing.
يمكن، مع ذلك، قبول تلخيصه لـ «مصالحة حقيقية بين الشعبين»، وهو أن اليهود طوّروا هويّة في مركزها المحرقة (الهولوكوست) والفلسطينيون طوّروا هويّة في مركزها النكبة.
التوصيف الإسرائيلي «ناكر المحرقة» يشمل من يجادل فيها وفي عدد ضحاياها، أيضاً، فهم ستة ملايين لا ينقصون ولا يزيدون. هل لأن الضحايا كانوا نصف عديد يهود العالم، أم لغرام الصهيونية واليهودية والإسرائيلية بالرقم «ستة»؟
النكبة، أو التطهير العرقي، أدت إلى طرد واقتلاع 750 ـ 800 ألف، أي أكثر من نصف الشعب الفلسطيني آنذاك، ورافقتها مجازر كان عددها «أكبر بكثير مما عرفته قبل بداية البحث، وأكثر بكثير مما يعترف به المجتمع اليهودي الإسرائيلي» كما يقول المؤلف في رسالة تقديمه للطبعة العربية الموجهة للقارئ العربي.
هل «الانبعاث» اليهودي في أرض فلسطين، بإقامة دولة إسرائيل، الذي نشأ نتيجة «النكبة» كان نتيجة مباشرة لـ «الهولوكوست» النازي، أم تحت وطأة الإيمان الأعمى بـ «حق اليهود التاريخي في فلسطين»؟
يُقال إن الفلسطينيين هم «ضحية الضحية»، لكن «العماليق» الفلسطينيين كما تصفهم توراتهم، ليسوا مسؤولين لا عن «المحرقة» ولا عن هدم الهيكل الأول والثاني، ولا حتى كفاحهم المسلح هو من دفع الجنرال دايان للقول، بعد أيام من حرب 1973 إن إسرائيل (الهيكل الثالث)، مهددة بالإبادة.
في مستهل ولايته الأولى ألقى باراك أوباما خطاباً في جامعة القاهرة عن معاداة السامية ودورها في المحرقة؛ ودور المحرقة في إقامة إسرائيل.
بعد 10 أيام، رد نتنياهو في جامعة بار ـ إيلان بالقول إن إقامة إسرائيل، أو «انبعاثها» هو نتيجة «الرابط التاريخي بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل منذ أكثر من 3500 سنة». يعني أن «الحق اليهودي» في فلسطين لا ينبع من المحرقة مطلقاً.
في ذلك الزمن، لم تكن الأقوام والأديان والإمبراطوريات قوامها «الشعوب» ولا حتى الدول القومية.
في تقديمه للكتاب، يقول أنطوان شلحت ما معناه: المقدمة قد تكون صحيحة لكن الاستنتاج خطأ، لأن النكبة الفلسطينية بدأت خيوطها تلوح قبل المحرقة، باعتماد الحركة الصهيونية برنامجاً «وطنياً قومياً» يهودياً في أرض فلسطين باعتباره «حقاً تاريخياً».. ودينياً ـ إلهياً؟!
مهما كان دور المحرقة في «الانبعاث» اليهودي بدولة قومية، فإن النكبة لها دورها في «الانبعاث» الفلسطيني، ولو كدنا نقول: الفلسطينيون شعب بلا دولة، وإسرائيل دولة بلا شعب وليس (أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض!).
«الحقيقة التي أقولها قد لا تكون هي الحقيقة، وربما ليست كل الحقيقة» كما يقول المؤلف في مقدمة الطبعة العربية.
هذا الصراع القديم ـ المتجدّد يدور، أيضاً، بين روايتين، ولاحقاً بين مصطلحات مثل «المحرقة» و»النكبة» و»الانبعاث».. وحق تقرير المصير، وصار بين «حقين» و»شعبين» واحد حقق دولته القومية ـ الدينية، والآخر يسعى إلى دولة وطنية («أرض لشعبين» ـ مارتن بوير؛ «دولة واحدة لشعبين» ـ المؤرخ بني موريس؛ «دولتان لشعبين» ـ الحل المطروح).
الكتاب يعتمد أربعة أرشيفات إسرائيلية، وصحفا ومواقع، وشهادات شخصية، ومئات الكتب بالعبرية والإنكليزية والفرنسية وفقط، أربعة كتب بالعربية، منها ديوانان للشاعر محمود درويش!
***
يائير أورون: (المحرقة، «الانبعاث»، النكبة) ـ 2013، عن مركز «مدار» للدراسات الإسرائيلية، حزيران 2015، ترجمة أسعد زغبي، مراجعة وتقديم: أنطوان شلحت، 442 صفحة من القطع الكبير.