وليد شقير
في كل مرة يرتكب «داعش» إحدى فظاعاته التي تفوق ما قبلها، ينبري النظام السوري، ومعه طهران، إلى دعوة الدول التي تتعرض لشناعات هذا التنظيم إلى التعاون لمواجهة الإرهاب.
ويدبّج الناطقون باسم الدولتين التصريحات التي تطالب الدول التي «تدعم الإرهاب بالمال والسلاح» إلى وقف هذا الدعم، متلبسين ثوب البراءة من نموّه وصعوده، ومتنصلين من دور كل من دمشق وطهران، إن عبر أجهزة استخباراتهما أو عبر السياسات التي مارستاها على مدى عقد ونيف، في نمو هذا التنظيم وانفلاشه.
حتى أن الحكومة السورية تستغل كل عمل شائن يرتكبه «داعش»، كالإعدام البربري في حق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، للمزج بينه وبين سائر تشكيلات المعارضة السورية، مثلما فعلت الخارجية السورية في رسالتها إلى الأمم المتحدة بعد التفجير الذي استهدف الأحد الماضي حافلة زوار لبنانيين إلى الأماكن الدينية في دمشق، مطالبة مجلس الأمن بإدانة «داعش» و «جبهة النصرة» و «الجيش الحر» و «جيش الإسلام».
إنه تكرار مملّ لمزج لم يعد ينطلي على متابعي نشأة التشكيلات الجديدة للإرهاب التكفيري بنسخته الإجرامية التي تفوق التصور، وهو تكرار هدفه إلصاق تهمة رعايتها بالدول التي تحاربها، وإبعاد التهمة من الدول التي ساهمت في تغذيتها.
وإذا كانت الروايات عن احتضان دمشق (وطهران) بعض قادة هذه التشكيلات وتهريب بعضهم من سجون العراق وسورية بحجة «تسهيل عملياتها ضد الاحتلال الأميركي» للعراق، فليس على من فاته ما وثّقته كتابات واعترافات كثيرة عن هذا الاحتضان، إلا العودة إلى آخر التقارير الذي نشر في جريدة «الغارديان» البريطانية في 11 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، والذي يسرد شهادات، بينها لأحد قادة «داعش» الميدانيين ولأحد جنرالات الاستخبارات العراقية الذي سبق أن فاتح الاستخبارات السورية (عام 2009) بلقاءاتها على الأراضي السورية (في الزبداني) في الزمان والمكان لتنسيق التعاون بين قادة «الدولة الإسلامية» في العراق والبعثيين العراقيين، الذين نظموا مجموعات مقاتلة ضد الأميركيين في بلاد الرافدين إبان رئاسة نوري المالكي الحكومة العراقية. ولا يغفل التقرير المطوّل سرد التفاصيل المثيرة لعملية تشكيل قيادة هذا التنظيم تحت أنوف الأميركيين أنفسهم، في المعتقلات الأميركية في العراق، حين سُجنوا هناك لدى القوات الأميركية، ومن بينهم أبو بكر البغدادي نفسه... الذي ارتقى من ناقل رسائل بين أبو عمر البغدادي قائد التنظيم الرئيسي الذي قُتل لاحقاً وآخرين، إلى قائد التنظيم من بعده، لمجرد أنه «عديم الرحمة». كما لا يُغفل التقرير الإشارة إلى تدفق مقاتلين انضموا إلى التنظيم من دول عدة، وبينها طهران (!)، إلى مطار دمشق حيث كان يرافقهم ضباط سوريون إلى الحدود مع العراق براً.
قد تكون دول أخرى سعت إلى استغلال التنظيم لاحقاً بعد انطلاق الانتفاضة السورية عام 2011 ورداً على استفحال السياسة الإقصائية للمالكي، لكن جذور هذا التنظيم تعود إلى تلك الحقبة التي استفادت فيها الاستخبارات السورية من العلاقات التي نسجتها مع قادته من أجل تسهيل سيطرته على مناطق سورية، بدءاً من عام 2012 (في محافظة الرقة)، بهدف شيطنة المعارضة السورية المعتدلة، ووصمها بالإرهاب، وتقديم أولوية محاربتها على الحاجة إلى الإصلاح والانتقال إلى نظام شراكة جديد في بلاد الشام.
مرة أخرى تطرح هذه الوقائع السؤال عما إذا كانت محاربة «داعش» ممكنة من دون سد ثغرة استغلاله من النظام في سورية، الذي يَطرح المفاضلة بينه وبين ارتكابات هذا التنظيم، فالنظام يدعو سائر الذين يستفظعونها إلى تجاهل فظائعه هو، التي افتتحت الذبح والحرق والطمر بالتراب والخنق بالكيماوي والإبادة بالبراميل المتفجرة... والتعطش للدماء الذي جاء البغدادي لينافسه فيها. إنها الحلقة الجهنمية التي يراد لمن يكافحون الإرهاب أن يصبحوا سجناءها، والاختراق الوحيد المتاح هو تمكين المعارضين المعتدلين في سورية من خوض المعركة المزدوجة ضد الإرهاب المتعدد الأوجه.
ولا تعفي سياسة الرئيس باراك أوباما بإعطاء الأولوية لضرب التنظيم في العراق وترك سورية لمصيرها البائس، حيث يزيد «داعش» أسباباً لانحساره (الذي سيتأخر) في بلاد الرافدين، الدولَ العربية من المسؤولية، فسياسة ربح الوقت التي يعتمدها أوباما عبر الضربات الجوية تقود هذه الدول إلى الانتظار ورمي المهمة على دول الغرب، لكن مواجهة «داعش» وإحداث التغيير السياسي في سورية وتفادي الحروب المذهبية التي تنزلق إليها إيران عبر سياساتها في الإقليم، هي مسؤولية عربية في الدرجة الأولى، تحتم قيام خطة متكاملة متوسطة وبعيدة المدى، تشمل التعبئة الشعبية والعقائدية والدينية والعسكرية. وأول شروط هذه التعبئة الجرأة في مقاربة مفاهيم قديمة نشأ الإرهاب في كنفها وترعرع الضعف العربي البنيوي في ظلها، وصولاً إلى مواجهة مخاطر التفتيت.