حسن نافعة
بدا مبارك أثناء جلسة إعادة محاكمته وكأنه نجم سينمائى خرج لتوه من غرفة «الماكياج» لتصوير أحد المشاهد الساخنة فى فيلمه الجديد، وليس سجينا يحاكم بقتل شعبه ونهب ثرواته. فقد كان وجهه يلمع كرياضى فرغ من ممارسة تمارينه الصباحية وختمها بساونا وحمام بخار ومساج، وبدا رأسه أسود فاحماً لا مكان فيه لشعرة بيضاء واحدة، وكان شعره يلمع بطريقة تشى بعملية صباغة متقنة تمت بعناية فائقة. ووضع فوق عينيه نظارة سوداء وأحاط معصمه بساعة من ماركات عالمية باهظة الثمن، عكستا حالة من «بحبوحة العيش» لا ينعم بها سوى أقلية محظوظة فى هذا العالم. لكن الأهم من ذلك كله أنه بدا فى حالة استثنائية من النشاط الحيوية والحبور، كأن الكهل قد استعاد شبابه أو عاد إلى صباه فجأة. فرغم ولوجه إلى «قفص الاتهام» على سرير طبى كالمعتاد، فإنه لم يكن مسجيا فوقه هذه المرة، بل كان فى وضع الجلوس، وكانت أساريره كلها، وليس فقط شفاهه المنفرجة عن ابتسامة عريضة، تنطق بالسعادة والارتياح، أما يداه وذراعاه فكانت جميعها تتحرك بنشاط ملحوظ وتلوح بامتنان وفخر للمعجبين والهاتفين باسمه فى القاعة.
ما إن وقعت عيناى على هذا المشهد المثير حتى هتفت قائلا: يا إلهى! هل هذا هو الرجل الذى ثار شعب مصر ضده وأسقطه. تذكرت على الفور تلك اللحظة «التاريخية» التى دخل فيها مبارك قفص الاتهام لأول مرة منذ ما يقرب من عامين. لقد بدا مبارك فى ذلك الوقت أقرب إلى جثة هامدة، وبدا حزينا ومكتئبا لدرجة أن ولديه علاء وجمال كانا يحاولان باستماتة إقامة حاجز بشرى أمامه حتى لا تطاله أعين الكاميرات المتلصصة، وهى تحاول بإصرار التقاط صورة له وهو فى تلك الحالة البائسة. فما الذى جرى يا ترى؟ وما الذى تعنيه تلك الابتسامة التى ظهرت أخيرا على وجه الرئيس المخلوع، هل هى ابتسامة الشامت فى شعب ثار ضده وندم، أم ابتسامة متهم أصبح مطمئنا إلى حصوله على البراءة أو على كل الضمانات اللازمة لإطلاق سراحه تمهيدا للعفو عنه؟
لا أستبعد أبدا أن تكون الابتسامة التى رأيناها تشع من أسارير مبارك دليل شماتة، وكأن لسان حاله يقول لنا جميعا: ألم أقل لكم مرارا وتكرارا أيها الأغبياء إن البديل الوحيد لنظامى هو حكم جماعة الإخوان؟ ها أنتم قد جربتمونى لمدة ثلاثين عاما وجربتم الإخوان لمدة عام تقريبا؟ ألم تلاحظوا بعد أن الثمن الذى دفعتموه فى عهدى يهون كثيرا إلى جانب الثمن الذى لم تدفعوا منه حتى الآن سوى الجزء اليسير، وأنكم ستدفعون أكثر فى المستقبل؟ وهل بدأتم تستمعون إلى صوت العقلاء منكم الذين يطالبون الآن بعودتى ولا يكفون عن ترديد أن نارى أفضل من جنة الإخوان؟!!
غير أننى لا أستبعد، فى الوقت نفسه، أن تعكس هذه الابتسامة شعورا عميقا بالطمأنينة فى حصوله على براءة أو عفو شامل فى نهاية المطاف. فالعلاقة بين الإخوان والنظام القديم ظلت دائما ملتبسة، وقامت على مزيج من الحب والكراهية فى آن واحد، واتسمت بإدراك متبادل من جانب الطرفين بعدم قدرة أى منهما على الاستغناء عن الآخر. فنظام مبارك كان، من ناحية، فى أمس الحاجة إلى إثبات أن البديل الوحيد له لابد أن يكون أسوأ منه، وبالتالى كان من مصلحته استخدام الإخوان «فزاعة»، أو اختراع هذه الفزاعة إن لزم الأمر. أما جماعة الإخوان فكانت فى أمس الحاجة، من ناحية أخرى، إلى إثبات أنها البديل الوحيد لنظام فاسد ومستبد، وبالتالى كان يناسبها تماما أن يستخدم النظام القديم فى مواجهتها سياسة العصا والجزرة فى آن واحد. فسياسة العصا تساعد الجماعة على إثبات أنها الجهة الأكثر تضررا من ظلم النظام واستبداده وفساده، وبالتالى الأكثر تضحية من أجل هذا الشعب، وسياسة الجزرة التى يستخدمها النظام لاحتوائها، وتتجلى أحيانا فى صفقات انتخابية، تتيح للجماعة فرصة ذهبية للإيحاء بأنها القوة السياسية الأكبر والأكثر شعبية، وبالتالى البديل الذى يمكن التعويل عليه. لذا لا أستبعد أبدا أن تكون تلك العلاقة التاريخية الملتبسة والمعقدة بين النظام القديم والجماعة قد صنعت بينهما أرضية مشتركة تسمح بتبادل المصالح فى أحلك الظروف. بما فى ذلك الظروف الذى تمر بها مصر حاليا، والتى تدفع الجماعة لاستخدام مبارك كورقة مساومة لتثبيت هيمنتها المنفردة.
أعتقد أن الشعب أكثر وعيا من أن يقع فى شرك المصيدة المنصوبة له، من خلال إقناعه بأنه لا سبيل أمامه سوى الاختيار بين الإخوان والنظام القديم (أو الإخوان والعسكر). فالشعب يدرك أن مصر فى أمس الحاجة إلى تأسيس دولة مدنية حديثة يديرها نظام ديمقراطى كامل. ولا يخالجنى شك فى أنه سينجح فى تحقيق هذا الهدف إن آجلا أم عاجلا.
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"