المصريون مضروبون في الخلاط

المصريون مضروبون في الخلاط

المصريون مضروبون في الخلاط

 لبنان اليوم -

المصريون مضروبون في الخلاط

بقلم : معتز بالله عبد الفتاح

هناك شرخ عميق فى الشخصية المصرية بحكم تعرضها لصدمات هائلة فى آخر مائة سنة، وأصبحت نتائجها جزءاً أصيلاً من الثقافة السياسية للمصريين. ويمكن رصد هذه الصدمات على مستويات أربعة.

أولاً وعلى مستوى الهوية، وجد المصريون أنفسهم يتحولون بقرارات سياسية من «ولاية إسلامية» تتبع الخلافة العثمانية لأكثر من 450 عاماً إلى دولة واقعة تحت الاحتلال البريطانى بالتعاون مع مجموعة من الملوك والزعماء الذين يجدون تحالفهم مع المحتل أنفع من تحالفهم مع زعماء الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال، لتنتقل مصر إلى «زعيمة» الأمة العربية تقاتل باسمها ضد الصهيونية والإمبريالية فى أعقاب ثورة يوليو. وتأتى هزيمة 1967 لتفقد الثورة الكثير من شرعيتها، ثم يرفع انتصار 1973 الروح المعنوية للمصريين، لكنهم يجدون أنفسهم، استيفاءً لمتطلبات السلام مع إسرائيل، مطالبين بأن يضحوا بكل ما عاشوا من أجله فى السنوات الثلاثين السابقة من أجل استعادة الأرض؛ فبدلاً من التفكير والتصرف كمسلمين أو كعرب كان عليهم أن يعيدوا «برمجة» أولوياتهم باعتبارهم «مصريين أولاً» وأحيانا «مصريين وكفى» وأن يجد علماء الدين ما يبرر السلام مع إسرائيل من آيات القرآن وأحاديث الرسول (ص) بنفس البراعة التى كانوا يحمّسون بها الناس للقتال والجهاد ضد العدو الغاصب. ومع كل صدمة من هذه الصدمات، يفقد المصرى جزءاً من قدرته على تحديد هويته، ومن ثم قضاياه الأولى بالتقديم.

وتأتى ثورة ٢٥ يناير ليجد المصريون أن من أنجحها هو من أفشلها ويخشى أن يتحول الوطن إلى الضحية دون تحديد من المنتصر ليقوم بـ٣٠ يونيو، ويكتشف أن المسألة أعمق من مجرد تغيير نظام حكم.

وعلى مستوى بنية النظام السياسى الداخلى، فقد شهدت مصر تحولات هائلة من الملكية مع التعددية الحزبية على عيوبها قبل ثورة ١٩٥٢، ومجتمع مدنى نشط نسبياً إلى نظام ثورى يلغى الأحزاب ويؤمم الصحف ويجمد المجتمع المدنى ويطلق لفظة «البائد» على كل ما كان سابقاً عليه، وقبل أن تستقر الأوضاع يرحل الرئيس عبدالناصر ويأتى الرئيس السادات، ليسير على خط الرئيس عبدالناصر «بأستيكة» كما قيل.

لنجد أنفسنا نعود إلى حالة من التعددية الحزبية الشكلية التى استمرت حتى عهد الرئيس مبارك الذى تبنى مزيداً من الانفتاح الإعلامى مع ضبابية فى حدود الحرية وقيودها، والسماح بمجتمع مدنى أكثر حرية، ولكن أقل فاعلية مما كان عليه قبل الثورة. وفى علاقة النظام السياسى بأقدم جماعة معارضة فى تاريخنا، أقصد جماعة الإخوان، تتوالى الصدمات بين النشأة والتفاوض ثم الإلغاء والحل فى مرحلة ما قبل الثورة، ثم دعم الثورة والتحالف معها، ثم القبض على رموزها وإعدامهم فى عهد الرئيس عبدالناصر، ثم إخراجهم من السجن والسماح لهم بالازدهار فى بدايات عهد الرئيس السادات، ثم الاعتقال فى آخر عهده، ثم توسيع هامش الحركة لهم فى عهد الرئيس مبارك مع تضييق هذا الهامش تباعاً بعد فوزهم فى كل انتخابات سمح لهم النظام بالتنافس فيها سوءاً كانت اتحادات طلابية أو نقابات أو تشريعية.

ثم يصبح هؤلاء فى موقع السلطة، ثم يطردون منها بعد أن ثبت أنهم غير جديرين بالأمانة التى أعطاهم الله إياها.

ثالثاً على مستوى بنية النظام الاقتصادى: فى أقل من عقدين تحولت مصر من نظام السوق ببورصة نشطة وعملة قوية ومنطق التنافس والتسويق وتفاوت حاد فى الدخول والثروات فى ظل اقتصاد منفتح على العالم الخارجى فى العهد الملكى إلى دولة اشتراكية تعيش على إغلاق الحدود الاقتصادية وتبنى منطق الاعتماد على الذات وتأميم الشركات والبنوك الأجنبية ثم الوطنية، وهكذا، فمن قواعد السوق إلى التدخلات الإدارية وجد المصريون أنفسهم مطالبين بالتعايش مع واقع جديد تعاملوا معه بمنطق «لعله خير».

وبعد سنوات ليست بالطويلة، ونتيجة عجز موارد الدولة عن الوفاء بما عليها من التزامات داخلية وخارجية عسكرية ومدنية، قرر الرئيس السادات أن يعود بعجلة الزمن إلى الوراء، فتتبنى مصر الانفتاح الاستهلاكى ليزيد من عجز الموازنة ويحدث خلل رهيب بالبنية الطبقية فى المجتمع فى وقت لم يكن فيه المصريون قد استوعبوا بعد ضربات التأميم فى مطلع الستينات، ثم تأتى روشتة البنك الدولى وصندوق النقد مع بدايات حكم الرئيس مبارك الذى أعلن انحيازه لمحدودى الدخل، مع يقينه بأنهم هم الذين يدفعون ثمن كل السياسات التى تبنتها الدولة منذ حكم مصر، فتشرع الدولة فى بيع الكثير مما قامت بتأميمه من قبل.

والأخطر أن هذه المعاناة الاقتصادية أدت إلى نتائج ثقافية وقيمية حادة جعلت ما كان حراماً وعيباً ومرفوضاً (لأنه يدخل فى باب الفساد والرشوة) ليس حراماً أو عيباً أو مرفوضاً، فيزيد الشرخ فى الشخصية المصرية اتساعاً. ويكفى النظر إلى قرار تأميم الشركات والمصانع الوطنية فى عهد الثورة، ثم قرار بيعها فى عهد الرئيس مبارك لنعرف حجم المعضلة التى عاشها المصريون.

فالشركات الوطنية كانت تعمل وتتوسع وتحقق تراكماً رأسمالياً جيداً ويدفع أصحابها الضرائب وتوجد مزيداً من فرص العمل، بل وتنافس الشركات الأجنبية، ويأتى رجال الثورة بجرة قلم لتحويل كل هذه الشركات إلى مؤسسات قطاع عام، وبدلاً من أن يدير الشركة صاحبها يصبح على رأس كل شركة ضابط أو أحد الموثوق فيهم الذى قد يديرها، وفى ذهنه حسابات كثيرة قد يكون آخرها الصالح العام المفترض، ثم يأتى القرار ببيع ما تم تأميمه وبناؤه فى مرحلة سابقة.

لماذا لم يترك الرئيس عبدالناصر ما كان يعمل فى يد القطاع الخاص يعمل وتبنى الدولة ما تشاء من شركات ومصانع مملوكة للدولة؟ ولماذا لم تقم الدولة بإصلاح الشركات والمصانع إدارياً قبل أن تشرع ببيع الكثير منها بمبالغ أقل كثيراً من قيمتها السوقية؟ هذا السؤال وذاك يلتقيان فى ذهن المصرى بلا إجابة لتضيف إلى الحيرة حيرة، وإلى اللامنطق جرعة أكبر من اللافهم.

رابعاً وعلى مستوى السياسة الخارجية والدور الإقليمى، حدثت تحولات عميقة فى الدور المصرى من عدو لإسرائيل لصديق يهنئها بحرب استقلالها ودعمها اقتصادياً بتصدير الغاز الذى يمثل ثروة قومية مصرية للشعب الإسرائيلى «الشقيق»، ومن قيادة المنطقة العربية ضد «العدو الصهيونى» إلى محاولة لعب دور «محايد» و«وسيط نزيه» فى نفس القضية التى ناضلت مصر باسمها ومن أجلها عقوداً، ومن عدو للولايات المتحدة التى توعّدناها بشرب مياه البحرين الأبيض والأحمر على عهد الرئيس عبدالناصر لحليفها الاستراتيجى الأكبر لدرجة أن خطوط العداء والصداقة المصرية فى منطقتنا تنطبق تمام الانطباق مع حدود العداء والصداقة الأمريكية، ويتحول رئيسنا إلى «كنز استراتيجى» عند «العدو» الإسرائيلى. هذه كلها تغيرات أشبه بصدمات لم يستوعبها العقل الجمعى للمواطن المصرى بما أفقده بوصلة تحديد مساحات الصواب والخطأ وحدود الفعل والتقاعس.

ورغماً عن كل هذا، فالوطن لم يزل صامداً، بما يعنى أنه فيه من مقومات الحياة والاستمرار ما يفوق ما أمامه من معضلات الصراع والفناء.

هذه محاولة للفهم ودعوة للتفاؤل.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المصريون مضروبون في الخلاط المصريون مضروبون في الخلاط



GMT 07:23 2017 السبت ,25 شباط / فبراير

أكثر ما يقلقنى على مصر

GMT 05:23 2017 الأربعاء ,22 شباط / فبراير

من المعلومات إلى القيم والمهارات

GMT 06:34 2017 السبت ,18 شباط / فبراير

جاستن ترودو: رئيس وزراء كندا - الإنسان

GMT 05:38 2017 الخميس ,16 شباط / فبراير

نصائح للوزراء الجدد

GMT 06:07 2017 الثلاثاء ,14 شباط / فبراير

من أمراضنا الأخلاقية

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon