عريب الرنتاوي
اهتمت وسائل الإعلام بالمواقف التي أطلقها الملك عبد الله الثاني عشية التئام مؤتمر المانحين في لندن، وتحديداً عند عبارتين اثنتين: الأولى وتتحدث عن “غليان الأردنيين”، والثانية، وتلوح بتغيير نوعي في المقاربة الأردنية حيال ملف اللجوء السوري، وربما أبعد من ذلك.
مراقبون وإعلاميون فهموا من العبارة الأولى، أن الأردن يقف على حافة “عدم الاستقرار”، وأن الملك يخشى انتقال فوضى الإقليم الممتدة منذ سنوات خمس، إلى الداخل الأردني ... آخرون، ظنّوا أن علاقة المجتمع المُضيف بالمجتمع اللاجئ، الأردنيون والسوريون، قد بلغت لحظة انعطاف خطيرة ... لا أدري كم نسبة الذين قرأوا تصريحات الملك، بوصفها صرخة احتجاج على تقصير المجتمع الدولي في مدّ يد العون إلى الأردن، الذي يضطلع بنصيب الأسد، من عبء اللجوء السوري، وبالمعنيين، النسبي والمطلق.
أحسب أن الملك في رسالته الخارجة على مألوف الخطاب، أراد أن يبعث برسالة مدوية إلى مجتمع المانحين أساساً، لم يكن الجمهور الأردني أو جمهرة اللاجئين السوريين، هما المخاطبين بالرسالة الملكية ... لكننا في عصر الاتصالات، فما أن تصدر مقابلة أو تصريح، بأي لغة، حتى تعمم في اللحظة ذاتها، على مختلف الأقطار وبمختلف اللغات ... إن لم يستقبل المجتمع الدولي فحوى الرسالة الملكية، فأحسب أن أبواب الأردن ستكون مفتوحة على احتمالات شتى.
الملك لامس في رسالته، التحدي الأبرز الذي يواجه الأردن، أمناً واستقراراً، وأعني به “التحدي الاقتصادي – الاجتماعي” المثير للقلق ... صحيح أن لهذا التحدي أسباباً سابقة للأزمة السورية وتفشي ظاهرة اللجوء بأعبائها المعروفة، لكن الصحيح كذلك، أن وجود مليون وثلاثمائة ألف سوري على الأرض الأردنية، قد فاقم هذا التحدي، وقد يحوّله إلى “مصدر تهديد” إن لم تُمَد يد المساعدة للأردن، اليوم، وليس غداً.
والملك إذ توجه بخطابه إلى الأسرة الدولية، ومجتمع المانحين الأمميين بخاصة، إلا أن أصداء صرخته لا بد أن تكون ترددت في عواصم شقيقة ثرية، أنفقت وتنفق عشرات مليارات الدولارات ذات اليمن وذات الشمال، وأحجمت عن “السخاء” حين تعلق الأمر بمساعدتها للأردن، وهو أمرٌ غير مفهوم على الإطلاق، في ظل ما يتردد على ألسنة كبار المسؤولين عندنا وعندهم، من قصائد في مديح للعلاقات الأخوية المتميزة والمصالح المتبادلة والالتقاء الاستراتيجي العميق.
الأردن، يعوّل كثيراً على مؤتمر لندن، وما يمكن أن يتمخض عنه من نتائج وقرارات، والتعويل هنا لا يتعلق بـ “حفنة دولارات” يمكن تقديمها على شكل “معونة طارئة” فحسب، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، إلى ما يمكن وصفه استراتيجية متوسطة وبعيدة المدى يلتزم بموجبها المجتمع الدولي بمنطق “الشراكة” مع الأردن، لحفظ أمنه واستقراره من جهة، وتعزيز دوره كشريك فاعل من جهة ثانية، ولتمكينه من تحمل أعباء اللجوء الكثيف على أرضه وبين سكانه، من جهة ثالثة.
لا أحسب أن “غليان الأردنيين” قُصِدَ به أن الأردن يقف على حافة انفجار كبير أو فوق لغم قد يثور في أية لحظة ... ليس على سطح أو تحت سطح، المجريات الأردنية ما يشي بذلك ... صحيح أن الضائقة الاقتصادية تعتصر الأردنيين، وصحيح أن ثمة عوامل “عدم استقرار” عديدة تتفاعل في الداخل الأردني، لكن الصحيح كذلك، أن الأردن الذي نجح في إدارة الأزمات التي ضربته وأحاطت به، ليس مرشحاً في المدى المنظور على الأقل، للالتحاق بطوفان الفوضى غير البناءة، بخلاف ما فهمه بعضهم من تصريحات الملك.
وأجد في تصريحات الملك وتحذيراته شديدة القوة، مناسبة للتذكير بحاجة الدبلوماسية الأردنية للتفكير من خارج الصندوق ... فالتعامل مع ملف اللاجئين، يجب ألا يظل محصوراً في معادلة “مانحين ومتلقين” ... فهذه المعادلة، معروفة سقوفها وحدودها مسبقاً، وهي في أحسن سيناريوهاتها، ستعمل على “تأجيل” الأزمة وإدارتها، بدل حلها ... لا بد من شنّ هجوم دبلوماسي موازٍ على محوري موسكو – دمشق، للعمل على تطبيع الوضع في جنوب سوريا، بدءاً بتشجيع المصالحات المحلية والتوسط فيها، وانتهاء ببحث فرص إنشاء “مناطق آمنة توافقية” تمنع تدفق المزيد من اللاجئين صوب الأردن، وتشجع من هم على الأرض الأردنية (أو بعضهم على الأقل) للعودة إلى ديارهم وتوفير مسالك آمنة توافقية أيضاً، لإيصال المساعدات الإنسانية للسوريين على المقلب الاخر من الحدود.
مثل هذا السيناريو، بحاجة إلى جهد سياسي ودبلوماسي كثيف، لكن ما يثير الإحساس بالتفاؤل حيال فرصة نجاحه، أنه منسجم مع مسار فيينا – جنيف، والتوافقات الروسية – الأمريكية، والعلاقات الخاصة والمميزة بين عمان وموسكو، وخطوط التواصل التي لم تتقطع بين عمان ودمشق ... والأهم، أنه السيناريو الذي يخدم على أفضل وجه، مصالح الأردن وأهله، ويصون أمنه واستقراره.
مشكلة اللجوء السوري في الأردن، هي مشكلة أردنية بامتياز، ولن يقلل من شأن هذه المسألة أنها مشكلة إقليمية ودولية، لم نتسبب نحن في خلقها وتأزيمها ... نحن من يكتوي بنارها، ونحن من يتحمل تبعاتها، ونحن من يتعين علينا، قلب كل حجر بحثاً عن حلول جذرية لها، فالمسكنات قد تخفف الإحساس بالألم والمعاناة، ووحدها الحلول المجترحة من عميق المصالح الوطنية، هي ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، فهل نجرب هذه المرة، التفكير من خارج الصندوق؟