عريب الرنتاوي
قبل شهرين من الآن (15 حزيران)، وفي هذه الزاوية بالذات، قلنا: إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لن يرفع الراية البيضاء ولن يسلم بنتائج الانتخابات، برغم اعترافه بها ودعوته المراوغة الأحزاب لتشكيل حكومة ائتلاف ... قلنا: إنه سيكلف “ظله” أحمد داود أوغلو بتشكيل الحكومة، وإن الأخير سيخوض مناورات وصفناها بـ “الماراثونية” مع الأحزاب الأخرى، لكنه لن يسمح بوصولها إلى النهايات السعيدة، ولن يسمح للأحزاب الأخرى بتشكيل حكومة جديدة بعد أن يكون انتقل إلى المعارضة ... قلنا: إن “الانقلاب” المتدرج و”الناعم” على نتائج الانتخابات، هو هدف أردوغان الأول والأخير، وإن كل ما سيفعله بعد الإعلان عن النتائج، ليس سوى “توطئة” و”تحضير” لهذا الانقلاب.
وبالعودة إلى سيرة الشهرين الفائتين، نرى أن سلوكيات الرجل قد جاءت مصداقاً لكل هذه التقديرات، التي ذهب إليها غيرنا كذلك، ولم نكن وحدنا من رجّحها ... لكن أردوغان والحق يقال، ينجح دائماً في إغراقنا بمفاجآته، إذ لم يخطر على بال أحد، أن يقدم الرجل على إعلان الحرب على أكراد بلاده (فضلاً عن أكراد سوريا)، لضمان الحصول على حفنة إضافية من المقاعد من “المتشددين القوميين الأتراك”، تمكنه من العودة إلى حكم تركيا منفرداً، ومن يدري فربما وجد الوقت والفرصة لاستئناف أحلامه السلطانية، ومعاودة السعي لنقل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، شديد التمركز والصلاحيات.
أوغلو أعلن بالأمس، وقف المشاورات الائتلافية مع الأحزاب، وأبلغ البرلمان الجديد بضرورة الاستعداد للانتخابات المبكرة، والأرجح أن الرئيس أردوغان، سيعلن بعد أسبوع على أكثر تقدير، عن إجراء انتخابات مبكرة، في غضون أشهر ثلاثة قادمة، لتكتمل بذلك حلقات الانقلاب على نتائج الانتخابات الأخيرة ... انقلاب أعد له في ليل بهيم، وبكثير من الخبث والدهاء، لكن بكثير من الخسائر المباشرة ومتوسطة المدى التي ستدفعها تركيا ثمناً لأحلام أردوغان وطموحاته الشخصية.
لم يعارض أحدٌ “انقلاب” السيسي في مصر ضد نظام الرئيس محمد مرسي، قدر ما فعل أردوغان، ولم يشتط أحدٌ في معارضته لذاك الانقلاب بقدر الشطط الذي ميّز نوبات الغضب والهستيريا التي كانت تجتاح الرجل كلما جاء أحدٌ على ذكر السيسي أو مرسي أو مصر والإخوان ... قال في “الانقلاب” ما لم يقله مالك في الخمر، وتحدث عن أكلافه الباهظة على الشعب المصري ... ها هو أردوغان نفسه، يتورط بـ “ذكاء وخبث” في إدارة وتنظيم انقلاب في بلاده، لا يختلف في من حيث الجوهر عن “انقلاب السيسي”، كما أن كلفة “انقلاب أردوغان” على صناديق الاقتراع لن تقل أبداً، عن كلفة “انقلاب السيسي” عليها ... كلاهما قامر ويقامر بتوريط البلاد في حرب مفتوحة وإن اختلفت المسميات، ضد حزب العمال الكردستاني في تركيا أو ضد الإخوان المسلمين في مصر.
كل شيء مباح في عرف السيد أردوغان للوصول إلى السلطة والبقاء فيها، شأنه شأن مختلف الأحزاب “العقائدية”، الدينية منها بخاصة، وهو نجح في تحويل حزبه إلى ناطق باسم الإسلام السني الراديكالي ... وستشهد الأشهر الثلاثة التي ستفصل تركيا عن الانتخابات المبكرة، أوقاتاً عصيبة على الأكراد والأتراك، ستشهد تصعيداً ميدانياً كفيلاً بتجييش وإذكاء “الطورانية” التركية، بعد أن ثبت للسيد أردوغان أن التجييش المذهبي (السني) يمكن أن يوفر له الأغلبية، لكن التفرد بالحكم، يتطلب إذكاء القومية التركية، والسيد أردوغان لن يمانع في فعل الأمرين معاً، طالما أن النتيجة ستكون بقائه لفترة أطول في قصره الأبيض الجديد، الذي لم يهنأ بسكناه بعد، ولم تتح له الفرصة لزيارة غرفه الـ “1150” بعد... وسيضع لنفسه هدفاً مباشراً خلال الأسابيع القادمة: تدمير حزب الشعوب الديمقراطية، وإرسال عدد من قادته الكارزميين، خصوصاً صلاح الدين ديمرطاش إلى السجن أو المحكمة، لتجريده من حقوقه المدنية، عملاً بـ “قانون اجتثاث البعث” في طبعته التركية.
وستكون الأشهر الثلاثة المقبلة كذلك، وبالاً على السوريين كذلك، خصوصاً في مناطق الشمال، فالعودة المظفرة والمنفردة لحكم تركيا، تستوجب العسكرة والتجييش، و”خلق المناطق الآمنة والعازلة”، واستعراض القوة وفرد العضلات ... أردوغان بحاجة لمفردات جديدة يضيفها إلى قاموس حملته الانتخابية القادمة، بعد أن ملّ الشعب التركي من مفرداته القديمة، وثبت بالملموس أنها ليس ناجعة تماماً لضمان التفرد في السلطة وتحقيق الأحلام الإمبراطورية.
نعرف الآن، أن القاعدة الحاكمة لسلوك الرئيس وحزبه هي:”الغاية تبرر الوسيلة”، برغم الرطانة الممجوجة والمملة عن القيم والمبادئ و”الإيمانيات”، من استدعاء الأطلسي والولايات المتحدة في حربه على سوريا، إلى دعمه المفضوح والسافر لـ “داعش” ومختلف الجماعات الإرهابية لضرب دمشق وتحقيق أحلامه وأطماعه في سوريا، وصولاً إلى إشعال حرب داخلية، ضد مكون رئيس من شعبه، طالما أنها ستجلب إلى صناديق حزبه، المزيد من الأصوات والمقاعد البرلمانية.