عريب الرنتاوي
نصحت الإدارة الأمريكية أطرافاً في المعارضة السورية، باعتماد “صيغة خلاقة” عند الحديث عن الرئيس الأسد في مؤتمر الرياض، كأن يقال مثلاُ “ان لا دور للأسد في مستقبل سوريا”، بدلاً من الإصرار على رفض أي دور للأسد حتى في المرحلة الانتقالية، قبلها كان الوزير جون كيري يتحدث عن إمكانية التوصل لصيغة، تضمن قتال الجيش السوري (جيش الأسد) إلى جانب فصائل المعارضة المسلحة، ضد “داعش”، تاركاً أمر الأسد للمستقبل ... وبعدها، خرج علينا لوران فابيوس بتصريح، يغزل على ذات النول الأمريكي، ويترك بدوره مصير الأسد لبحث لاحق.
والحقيقة أننا منذ عدة أشهر، ونحن نتابع صعود وهبوط “باروميتر” المواقف الغربية من الأسد ومصيره ودوره في مستقبل سوريا، ولقد سبق لنا وأن شاهدنا هذا “الفيلم” من قبل، حتى أنه باتت ممجوجاً وغير مسلٍ على الإطلاق ... تارة تمطرنا واشنطن وعواصم الغرب الحليفة بوابل من التصريحات التي تشدد على “داعش أولاً” وتترك مصير الأسد لبحث لاحق، وأخرى تنهال علينا التصريحات التي تشدد على وجوب رحيله، أمس قبل اليوم، واليوم قبل الغد ... ومع كل موجة من هذه الموجات المتعاقبة والمتناقضة، يدخل إعلاما “الممانعة” و”الاعتدال” في سجال محموم، لا يهدأ حتى يثور من جديد.
من منظور محور “الممانعة”، فإن مجرد بقاء الأسد في “عرينه”، يعني انتصار هذا المحور، حتى وإن كان ثمن هذا النصر المؤزّر، خراب سوريا ودمار عمرانها وشتات شعبها وتفسخ مجتمعها .... أما من منظور “الاعتدال”، فليس المهم من يأتي بعد الأسد، بل وليس المهم، أن تظل سوريا التي نعرفها على حالها، طالما أن الأزمة برمتها قد اختزلت في “شخص” الرئيس، وبات بقاؤه أو ذهابه، معياراً حاسماً للنصر والهزيمة .. مقاربتان بائستان وإن كانت مسبوقتين بمثلهما في تاريخ العرب المعاصر.
في العام 1967، وبعد الهزيمة النكراء التي مُنيت بها جيوش عربية عدة، أمام “شُذّاذ الآفاق”، خرج علينا من يحاول إقناعنا بأن العرب لم يهزموا في حرب الساعات الست، ذلك أن هدف الحرب وفقاً لتلك الأبواق الإعلامية الصدئة، لم يكن في واقع الحال، سوى إسقاط جمال عبد الناصر عن قمة عرشه، وطالما أن الشعب المصري خرج في مظاهرات عفوية رافضاً تنحي الرئيس عن جميع سلطاته وصفاته، فإن الهزيمة النكراء انقلبت تلقائياً إلى نصرٍ مؤزر، أما ضياغ ما تبقى من فلسطين وصحراء سيناء وهضبة الجولان، فليس سوى تفصيل، لا يجوز لعاقل أن يصرف اهتمامه عليه.
الأمر ذاته تكرر في العراق، فبعد سنوات ثماني عجاف من الحرب مع إيران وأكثر من مليون قتيل، وبعد خراب البصرة وبغداد اثر احتلال الكويت، وعلى الرغم من سنوات الحصار والعقوبات العجاف التي جاوزت الأعوام العشرة، ما زلنا نسمع حتى يومنا هذا، بان العراق انتصر في هذه الحروب، حتى أن البعض يعتقد أنه الرئيس صدام حسين لم يهزم أمام الغزو الأمريكي للعراق، وآخرون، يرددون بين الحين والآخر، أنه ما زال حيّاً، وليس مهماً ما حلّ بالعراق من خراب ودمار وقتل وتشريد وتقسيم .
على المقلب الآخر، لم يتعلم “المعتدلون العرب”، الثأريون والقبليون بطبيعتهم، أن إخراج هذا الزعيم من سدة الرئيس ليس سوى مبتدأ الجملة، أما خبرها الذي يتعلق بمستقبل البلاد والعباد، فهذا ليس من شأنهم، وهم لا يولونه أي اهتمام يذكر ... هم اليوم، يترحمون على زمن صدام حسين، الذي نجح في لجم الاندفاعة الإيرانية صوب المشرق والهلال الخصيب، وهم إذ يرون ليبيا تتحول إلى قاعدة خلفية لداعش بقد سقوط القذافي ، فإن من بينهم من يترحم اليوم على أيام “العقيد” و”المجنون” ... هؤلاء لا يبالون، ثاراتهم القبلية تأتي أولاً، ومن بعدها الطوفان ... وبهذا المعيار، وبه وحده، ينظرون إلى سوريا ومستقبل الصراع فيها، المهم أن يخرج الأسد من السلطة، حتى وإن حل محله زهران علوش أو أبو محمد الجولاني، بعضهم ربما لا يمانع أن تلتحق سوريا بمجملها إلى “خلافة البغدادي”، المهم ألا يبقى الأسد في السلطة، فوجوده يذكر بخطاب “أنصاف الرجال”، وهل أصعب على فرسان داحس والغبراء من الطعن برجولتهم وذكوريتهم؟ .... نحن إذن، أمام سجال هابط، يختصر سوريا برجل واحد، والمؤسف أنه اختزال متبادل، يمارسه كلا المعسكرين، لكأن 23 مليون سوري، ليسوا سوى تفصيل صغير، وأمر لا يستحق الذكر والعناء.
وستظل “حكاية الأسد”، موضوعاً لعشرات الندوات الحوارية، ومادة لمئات المانشيتات والمقالات، في صحف ووسائل إعلام الفريقين، كل فريق “يتسقّط” ما يناسبه من تصريحات وإيماءات للدلالة على رجحان الكفّة لصالحه ... وبين موجة وأخرى من التصريحات الغربية المتناقضة والمتقلبة وما يعقبها من طوفان التحليلات والتعليقات، يسقط مئات السوريين بين قتيل وجريح، كان الله في عون سوريا والسوريين.