عريب الرنتاوي
توافر الانتخابات المحلية والجهوية المغربية، فرصة للمقارنة بين تجربتين تسيران على الطريق: المغرب والأردن، مع ملاحظة أن التجربة المغربية، متقدمة في شتى مجالاتها، على التجربة الأردنية، لجهة عمق وسرعة الالتحاق بمسارات الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي.
الانتخابات بعامة، جرت بإجماع المراقبين، في أجواء من التنافس الحر والشفاف، وبتدخل أقل من “الإدارة” وفقاً للتعبير المغربي الدارج، في إشارة إلى “الدولة العميقة” أو “المخزن”، وثمة مناخات ارتياح عامة، تهيمن على الأجواء الحزبية المغربية، من دون أن يخلو الأمر بالطبع، من اعتراضات على القانون في الأصل، ومحاباة “الإدارة” لبعض الأحزاب المحسوبة عليها، أو حتى الانتهاكات والتجاوزات التي مارستها الأحزاب في الانتخابات، ومن أهمها استخدام “المال السياسي” و”العنف اللفظي” في الحملات.
من أصل حوالي 22 مليون صاحب حق في الاقتراع، سجل ما يزيد قليلاً عن نصفهم في لوائح الانتخاب (12.5 مليون)، وأكثر من نصف هؤلاء (حوالي 54 بالمائة) شاركوا في الاقتراع، ومن أصل أكثر قليلاً من سبعة ملايين ناخب، حظيت أحزاب ثلاثة فقط على نصف أصواتهم تقريباً: العدالة والتنمية: مليون ونصف المليون، حزب الأصالة والمعاصرة: مليون وثلث المليون، وحزب الاستقلال: مليون صوت أو أزيد قليلاً... أما بقية الأحزاب الـ 29 المشاركة فقد توزعت بقية الأصوات والمقاعد.
بخلاف الحال عندنا، فإن التنافس على المقاعد الـ “31 ألف” للمجالس (خُمسها تقريباً للنساء)، تدور بين أحزاب سياسية متجذرة وفاعلة، وتولي الأحزاب اهتماماً استثنائياً للفوز بهذه الانتخابات، سيما بعد دستور 2011 الذي منح مجالس الحكم المحلي والجهوي صلاحيات واسعة، تكاد تشمل كافة مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، باستثناء الأمن، وهي صلاحيات متروكة للجهات المنتخبة، وليس للإدارة أو المركز أو الهيئات الحكومية المعينة (أنظروا قانون اللامركزية)... لذلك، ترى وزراء في الحكومة يتركون مناصبهم، لخوض غمار المنافسة على المجالس الجهوية، باعتبارها مصدراً للسلطة والقرار والنفوذ، وترى الأحزاب تتبارى لبناء التحالفات، لضمان مواقع مهمة في هذه المجالس، غير الشكلية على الإطلاق.
سياسياً، كشف نتائج الانتخابات جملة من الظواهر المهمة في الحياة السياسية المغربية الداخلية ... لعلها أهمها على الإطلاق، يتمثل في نجاح حزب العدالة والتنمية في “اكتساح” غالبية الأصوات، حيث ضاعف لثلاث مرات، حجم الأصوات التي حصل عليها في آخر انتخابات محلية قبل ست سنوات، برغم وجوده في الحكم أكثر من نصف هذه المدة، وبرغم تكاثر الرهانات على تراجع مكانته الشعبية ... الحزب ينجح في الشأن السياسي وفي إدارة المحليات والجهات، وهو كما قال رئيسة يقطف ثمار عمله المتراكم والدؤوب “كما يفعل النمل” فيما خصومه يحصدون النتائج المرة لاكتفائهم بالصراخ “كما تفعل الصراصير”... ابن كيران، قال أن “الشعب المغربي رد لحزبه التحية بمثلها” وربما أحسن منها.
والحقيقة أنه لا يمكن تفسير تقدم العدالة والتنمية في المغرب، في وقت يشهد فيه الإسلاميون تراجعات كبيرة في معظم الساحات العربية، من دون النظر إلى التحولات الجذرية التي أدخلها الحزب على رؤيته ومنهجه في العمل السياسي والفكري والدعوي، فالحزب لم يعد يكثر من الحديث عن مرجعية إسلامية، بقدر ما بات يخاطب الناس باقتراحات ومشاريع حلول لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، وقد وضع لنفسه مرجعية وطنية عناوينها: عدالة، تنمية وديمقراطية.
اليسار المغربي موزع بدوره على بضع كتل، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، هُزم هزيمة نكراء في هذه الانتخابات، وحل سادساً، بعد سلسلة الانشقاقات التي أعطبت قدرته على الحشد والتأطير، وتفشي مظاهر البيروقراطية في بنيته الداخلية، وفشل تجاربه السابقة في الحكم أو المشاركة فيه، فيما حزب التقدم والاشتراكية (الشيوعي)، يحل سابعاً في الانتخابات، وهو شريك للعدالة والتنمية في الحكومة بخمسة وزراء، وقد سجل تقدما ملحوظا في الانتخابات الحالية بحصوله على ما يقرب النصف مليون صوت مقابل أقل من نصف هذا العدد في الانتخابات السابقة، ليكون بدوره، الحزب الشيوعي العربي الوحيد، الذي يتقدم، فيما بقية الأحزاب الشيوعية العربية تتراجع وتنقسم على ذاتها.
اليسار الراديكالي، امتداد “إلى الأمام” و”23 مارس”، والذي يرثه الآن الحزب الاشتراكي الموحد، الحزب الوحيد في المغرب الذي تقوده امرأة، نجح في تشكيل “فيدرالية يسارية”، وخاض الانتخابات الائتلافية تضم ثلاثة أحزاب، نجحت في الحصول على أزيد قليلاً من 1 بالمائة من الأصوات، نجح في تقديم نفسه كلاعب على الساحة، لكن اطروحاته حول “الملكية البرلمانية” تفرض حدوداً لما يكمن أن يصل إليه في المستقبل، إن ظل على تمسكه بطروحاته “الطهرانية” (بالمناسبة، الدكتورة نبيل منيب رئيسة الحزب هي الوحيدة من بين رؤساء الأحزاب التي لم يستقبلها الملك محمد السادس، بسبب طروحاتها – الأقصوية – وهي وريثة المناضل محمد بنسعيد مؤسسة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، الوحيد الذي لم يقبل يد الملك الحسن الثاني).
أحزاب “الإدارة” التي احتلت مواقع متقدمة في الانتخابات، ما زالت حاضرة وبقوة، وكذا حزب الاستقلال التاريخي المحافظ، وهي نجحت في الحصول على المواقع الثانية والثالثة والرابعة والخامسة من حيث عدد الأصوات، وتستند إلى قاعدة بيروقراطية من رجالات الدولة وأعيان المدن والأرياف، وتحظى بقاعدة يصعب تجاوزها أو القفز عليها، وهي بالمناسبة الأقرب من حيث تصنيفها بما يسمى لدينا بالأحزاب الوطنية أو الوسطية أو البرامجيه، مع الفارق الكبير في الكفاءة والنفوذ والإنجاز.
يبقى أن نختتم بالإشارة إلى أن هذه الانتخابات، أرست اللبنات الأساس لمشروع “الحكم الذاتي” في الصحراء المغربية، موضع التنازع مع المغرب وجبهة البوليساريو، وهو المشروع الذي يراهن المغرب على أن يكون مدخلاً لحل هذا الصراع المديد والمرير، الذي أكل من ثروات المغرب والجزائر ما يكفي من الموارد لحل مشكلات البلدين الاقتصادية والاجتماعية، وعطل مسار تطور الاتحاد المغاربي، وأبقى الحدود بين أكبر بلدين عربيين في المغرب الكبير، مغلقة معظم سنوات ما بعد الاستقلال ... هنا أيضاً في المغرب العربي، الإقليم ليس مستقراً، وإن كان أفضل حالاً من المشرق، حتى الآن على الأقل.