عريب الرنتاوي
في الجدل الدائر حول الاستراتيجية الأمريكية للحرب على داعش، يجادل كثيرون بان واشنطن تسعى في “احتواء” التنظيم الإرهابي وليس في “تدميره” كما وعد الرئيس باراك أوباما... وأن الولايات المتحدة تريد إطالة أمد الحرب ولا تستعجل إنهاءها، ويدللون على ذلك بجملة من الشواهد أهمها: (1) أن استراتيجية الضربات الجوية المتعبة التي وإن ألحقت بعض العطب في قدرة “الدولة” على شن هجمات جديدة وتسجيل اختراقات على جبهات القتال، إلا أنها ما زالت بعيدة عن إرهاق التنظيم أو حتى الحد من توسعه على بعض المحاور... (2) أن واشنطن لم تبذل ما يكفي من جهد ومحاولات لتشكيل قوة برية قادرة على مطاردة داعش والإمساك بالأراضي التي يجري استرجاعها منه .... (3) أن واشنطن تبنت استراتيجية بناء قوة مقاتلة مما يسمى “المعارضة السورية المعتدلة” قوامها 15 ألف مقاتل، لمدة ثلاث سنوات، أي بمعدل خمسة آلاف مقاتل سنوياً. وعلى الرغم من أن أحداً لا يمكنه الثقة بقدرة قوة محدودة كهذه على “تحرير” ثلث سوريا من سيطرة داعش، إلا أن الاستنتاج الأبرز المبني على هذه الاستراتيجية، يقول، إن الولايات المتحدة تخطط لحرب تمتد لسنوات طوال.
لدى واشنطن خطوط حمراء، يتعين على داعش عدم اجتيازها، وما دون ذلك يمكن العيش مع “دولة الخلافة” لسنوات عديدة مقبلة ... بغداد وأربيل وحقول النفط الكبرى وربما بعض السدود الاستراتيجية التي تشكل تهديداً نوعياً لحياة ملايين السكان في العراق بشكل خاص .... أما في سوريا، فلا يبدو أن لواشنطن خطوطاً حمراء لتمدد التنظيم... كما أن الولايات المتحدة تعطي الأولوية للحرب على داعش في العراق، تاركة سوريا لمرحلة لاحقة وحسابات أخرى.
إن القول بأن الولايات المتحدة خرجت من حربين قاسيتين في العراق وأفغانستان، وأنها لا تنوي الدخول في حرب برية ثالثة، لا يمكن أن يُعد سبباً مقنعاً لتفسير الإحجام الأمريكي عن تبني استراتيجية لتدمير داعش، والاكتفاء باستراتيجية الاحتواء والمشاغلة المتبعة حالياً ... فالولايات المتحدة، قبل غيرها، وأكثر من غيرها، تنظر للتنظيم بوصفه خطراً كونياً يهدد الأمن والسلم الدوليين، بل وترى أن تهديد داعش اليوم تخطى تهديد القاعدة في ذروة صعود الأخيرة تحت قيادة أسامة بن لادن.
لماذا إذن تريد الولايات المتحدة إطالة أمد الحرب، وإبقاء المنطقة تحت تهديد التنظيم الإرهابي لبضع سنوات قادمة؟
إن الإجابة على هذا السؤال لا تبدو ممكنة من دون النظر إلى الأطراف المتورطة في هذه الحرب، والتي تدفع أفدح الأثمان جراء استمرارها ... أول هذه الأطراف “القاعدة” ذاتها، بمختلف أسمائها ومسمياتها، فسوريا أساساً، ومن ثم العراق، باتت نقطة جذب وتجمع وتمركز لمئات وألوف الإرهابيين من شتى أنحاء العالم، وهذا كفيل بتوفير فرصة لإخراج “الخلايا النائمة” من سباتها، والكشف عن شبكات وعناصر التنظيم المنتشرة في مختلف دول العالم، و”القاعدة” وفقاً لمختلف التقارير تفقد المئات من عناصرها شهرياً في الحرب الممتدة من حدود العراق مع إيران والسعودية إلى حدود سوريا مع لبنان.
وثاني هذه الأطراف، هو إيران التي تجد في صعود “دولة الخلافة” السنيّة المتشددة، تهديداً لنفوذها وكسراً لـ “هلالها” الممتد من طهران حتى الضاحية الجنوبية لبيروت، وإيران تواجه في سوريا على نحو خاص، حرب استنزاف مريرة، خصوصاً لمواردها المالية والاقتصادية المتآكلة بفعل تراجع أسعار النفط، واستمرار الحرب في سوريا بالذات، من شأنه أن يجعل من هذا البلد “فيتنام” ثانية للجمهورية الإسلامية.
ولا تقتصر حرب الاستنزاف التي تواجهها إيران على إيران وحدها، فحلفاؤها أيضاً يواجهون تهديداً مماثلاً ... النظام السوري لا يبسط سيطرته على أكثر من ثلاثين بالمائة من الأراضي السورية... وحزب الله اليوم، لم يعد ذاك الحزب زمن تحرير الجنوب (أيار 2000) أو زمن انتصار (تموز2006)، حزب الله اليوم، يواجه حرب استنزاف حقيقية، ويواجه تحد كبير من قواعده ومع بيئته الحاضنة، والأهم، أن الغطاء “الوطني” اللبناني و”القومي” العربي” و”الأممي” الإسلامي، قد رفع عنه إلى حد كبير، ليعاد تصنيفه كحزب مذهبي، ومليشيا أخرى في نظر كثيرين حتى ممن اعتادوا النظر إلى تجربته بكثير من التقدير والاحترام.
كما يواجه حلفاء إيران في العراق تحد مماثل، هؤلاء الذين توزعت ولاءاتهم لبعض الوقت بين طهران وواشنطن، انتقلوا زمن الحكومة الثانية لنوري المالكي إلى الأحضان الإيرانية بصورة أوضح من قبل، وذهبوا بعيداً في سياسات التهميش والإقصاء، والولايات المتحدة تجد فرصتها اليوم في إعادة تطويع هؤلاء، أو الحد من اندفاعتهم الإيرانية، من خلال توظيف ورقة داعش لإعادة بناء النظام السياسي العراقي، بصورة أكثر توازناً، والزج بعناصر وقوى أخرى في هذا النظام، حتى لا يتحول إلى “ألعوبة” في اليد الإيرانية، ويجعل من كل العراق، ساحة خلفية لنفوذ الجمهورية الإسلامية.
وثالث هذه الأطراف، إنما يتمثل في روسيا، التي تحاول أن تلعب دور القطب الدولي الثاني في مواجهة “الأحادية القطبية”، وسوريا تشكل آخر قلاع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط والشاطئ الشرقي للمتوسط، وموسكو تستنفذ في سوريا الكثير من الموارد كذلك، وهي بدرجة أقل، تتحول إلى “أفغانستان ثانية” للكرملين.
حتى الآن، لا يبدو أن واشنطن قد أنجزت أهداف استراتيجية “إطالة أمد الحرب”، وليس من المؤكد أنها ستنجح في ذلك أم لا، لكن الإدارة الأمريكية ليست على عجلة من أمرها، فكل يوم يمضي، يخسر خصومها المزيد من الجهد والدم والمال والنفوذ، في حرب بعيدة عن حدودها، وطالما أن هذه الحرب، لا تهدد وجودياً حلفاءها، فليس ثمة من سبب لاستعجال الحسم والانتقال إلى استراتيجية “تدمير” داعش بدل احتوائها، وهي استراتيجية آتية لا ريب فيها، لكن السؤال متى وكيف وفي ظل أية ظروف.