بقلم : عريب الرنتاوي
لم يراود قادة إسرائيل، حتى في أكثر أحلامهم وردية وسعادة، أن تأتي إدارة أميركية يوما، وتصوغ باسمهم ونيابة عنهم، مبادرة سياسية لحل صراعهم المزمن مع الفلسطينيين، تشتمل على كل هذه «الأعطيات» و»المكارم»... لم يخالج اليمين الإسرائيلي يوما الشعور بأن ما كان يسعى لتنفيذه طوال عقود من الصراع المرير، سيأتي «فريق رئاسي أميركي» ويضعه تحت أقدامهم، وعلى طبق من الفضة.
أما الفلسطينيون، الذين اعتادوا طوال تاريخ كفاحهم من أجل الحرية والاستقلال على الاصطدام بالمواقف الأميركية المنحازة لإسرائيل، فقد واجهوا «صدمة مضاعفة» هذه المرة: الإدارة الأميركية تنحاز بالكامل لليمين الإسرائيلي المتطرف، وتتبنى روايته من دون تمحيص أو حذر أو تحفظ، وتطلق مشروعا مصمما في جوهره ومضمونه، لتصفية قضيتهم الوطنية، وتهديم أركان مشروعهم الوطني الثلاثة: العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
من تابع الخطاب السياسي و»العقائدي» لليمين الحاكم في إسرائيل كان يدرك تمام الإدراك أنه يعيش نشوة «انتصار استراتيجي» على العرب والفلسطينيين، وأن تصوراته للحل النهائي لصراع المئة عام على «فلسطين التاريخية»، كانت تعكس هذه النشوة، فقانون «قومية الدولة» الذي أقره الكنيست، تحدث عن حق اليهود وحدهم في تقرير المصير في المنطقة الممتدة من النهر إلى البحر، وأن بقايا السكان الآخرين، لا يمكنهم أن يمارسوا حقا مماثلا، وإن جاز لهم أن يتمتعوا بحقوق مدنية.
«صفقة القرن» جاءت لتنقل هذه الأحلام، إلى خطط وبرامج وخرائط وجداول زمنية، بالضد من الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة ومرجعيات عملية السلام والاتفاقات المبرمة، والأهم بالضد من مواقف وسياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة، وبما لم تفكر به نسبة «وازنة» من الإسرائيليين أنفسهم، من خارج معسكر المتطرفين دينيا وقوميا.
فـ»الدولة» التي تقترحها «الصفقة» على الفلسطينيين، ليست دولة على الإطلاق، ولا تلتقي أو تتطابق أو تنسجم، مع كل ما انتهت إليه المعرفة البشرية حول «مفهوم الدولة»... فهي عبارة عن «أرخبيل» من عشرات الجزر المعزولة، متواصلة جغرافيا كما قال الرئيس ترامب، ولكن عبر عشرات الجسور والأنفاق، وهي مبثوثة كالبثور تحت جلد إسرائيل، ولا تواصل جغرافيا مع عمقها العربي الشرقي: الأردن بعد «منح» منطقة الأغوار الفلسطينية وشمال البحر الميت المحتلة لـ»السيادة الإسرائيلية».
دولة لا سلطة لها ولا سيادة على حدودها ومعابرها وأجوائها ومياهها الإقليمية، لا سلطة لها على ثرواتها الطبيعية، بعد أن يتم ضم المناطق الغنية بها لإسرائيل... دولة لا تبرم معاهدات ولا اتفاقات دولية، ويحظر عليها إقامة ميناء أو مطار إلا بعد أن تظهر حسن سيرة وسلوك، وفوق جزيرة صناعية تنشأ لهذا الغرض في عرض بحر غزة.
دولة يعتمد ترسيم حدودها النهائية على شهادة حسن سلوك من أعدائها، يعرف واضعو الخطة أنها لن تصدر أبدا... فإن أحسن الفلسطينيون التصرف يمكنهم الحصول على 70 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، وإن أساؤوا السلوك تقلصت هذه المساحة وفقدت الفرصة في الحصول على الأراضي المستقطعة من صحراء النقب، كتعويض عن خسارتها لأراضي المنطقة «ج».
دولة تقوم على «تبادل الأراضي» جنوبا، لتوسيع قطاع غزة، وتبادل السكان شمالا، لتخليص إسرائيل من عشرات الألوف من مواطنيها العرب الإسرائيليين المقيمين في قرى المثلث... دولة مفصلة على مقاس نظام «الأبرتهايد» و»الفصل العنصري»، الذي بات الصيغة المعتمدة للحل النهائي بإجماع اليمين الديني والقومي في إسرائيل، ومصادقة من إدارة الرئيس دونالد ترامب وخطته المعروفة بـ»صفقة القرن».
أما عن القدس، العاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل، فحدّث ولا حرج... هنا ليس الفلسطينيون وحدهم ضحايا الصفقة بل الأردن والعرب والمسلمون، فالمدينة استقرت في الوعي الجمعي العربي ـ الفلسطيني ـ الإسلامي، ومنذ أزيد من أربعة عشر قرنا من الزمان، بوصفها ثالث أقدس المدن عن المسلمين، ومهوى أفئدة أكثر من مليار ونصف مليار مسلم في العام... لقد تجاهلت إدارة الرئيس ترامب، ما سبق للعالم برمته، أن أدرك أهميته وحساسيته، فقوضت أي ترتيب خاص للمدينة أو مقدساتها، ونقلتها بكل من فيها وما فيها، هدية على طبق من فضة، لعتاة اليمين الديني والقومي في إسرائيل.
واشنطن تراهن بلا شك، على حالة الضعف والتخاذل التي تميز مواقف أنظمة وحكومات عربية وإسلامية، وعلى نوايا واستعدادات بعض القادة العرب على التساوق مع مسعى الإدارة لغلق هذا الملف الشائك... لكن رهانات كهذه هي بكل تأكيد، رهانات قصيرة النظر، قد تصمد لبضع سنوات أو حتى لبضعة عقود، لكن المؤكد أنها لن تؤسس لسلام واستقرار دائمين، بل ترسي حجر الأساس لمئوية جديدة من الصراع الفلسطيني (العربي) الإسرائيلي.
واشنطن، وعلى لسان أكثر من مسؤول رفيع فيها، راهنت وتراهن على أن «القيامة لم تقم» و»السماء لم تنطبق على الأرض» بعد الاعتراف بضم القدس ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها... وربما يتابع هؤلاء المسؤولون بكثير من الارتياح، ردود الأفعال المتواضعة حتى الآن، رسميا وشعبيا على صفقة القرن.
لكن هذا الرهان هو أيضا من النوع قصير النظر... فسوف تدخل المسألة الفلسطينية في لائحة الحسابات التي ستتعين تسويتها بين الشعوب العربية وحكامها، إلى جانب عشرات القضايا التي ستحاكم شعوب المنطقة حكامها وحكوماتها عليها في سياقات الربيع العربي بموجاته المتعاقبة.
وثمة ما يشي بأن «صفقة القرن» قد تتحول إلى «صدمة القرن» بالنسبة لشعوب المنطقة وقواها الاجتماعية والوطنية والمدنية المختلفة، بدءا بالشعب الفلسطيني، وقد يعاد من جديد تجديد أواصر الارتباط بين النضال الوطني والتحرري لهذه الشعوب، بكفاحها من أجل الحرية والديمقراطية، بعد أن جرى «فك الارتباط» بين هذين المسارين... ونشهد اليوم في شوارع بغداد وتونس وبيروت وعمان، حراكات وهتافات وشعارات، تنبئ بإمكانية دخول ثورات الربيع العربي على مسارات جديدة.
أما الفلسطينيون أنفسهم، فقد كان الكشف عن «صفقة القرن» لحظة «كي الوعي» بالنسبة لكثيرين منهم، بعد أن أدركوا أن قضيتهم الوطنية قد دخلت مرحلة استراتيجية جديدة، لم تعد تنفع معها أدواتهم وأساليبهم القديمة... سبعة ملايين فلسطيني على أرض فلسطين التاريخية، يعادلون نصف سكانها، اليوم، باتوا يدركون أكثر من أي وقت أن معركتهم ضد نظام الفصل العنصري، هي معركة واحدة، وإن تعددت ساحاتها، وأن الخطوط الخضراء والحمراء التي كانت تفصل تجمعاتهم المختلفة، في طريقها للذوبان والإمحاء.
والمؤكد أن ستة ملايين لاجئ فلسطيني، تركتهم «صفقة القرن» لخيار «الترك والنسيان»، دون اعتراف بأي من حقوقهم، لا في العودة ولا في التعويض، سيتحولون إلى وقود لموجات جديدة من العمل الوطني الفلسطيني، تذكر بدورهم «التأسيسي» في الحركة الوطنية المعاصرة عند انطلاق الثورة الفلسطينية في أواسط ستينيات القرن الفائت.
صفقة القرن التي قيل فيها، إنها «مبادرة إبداعية» وغير مسبوقة، وإنها «عرض لن يستطيع أحد رفضه»، أعادت عملية سلام الشرق الأوسط إلى المربع الأول، ودشنت مرحلة جديدة من الصراع بدل الاستقرار، وهي تؤذن بجرف شعوب أخرى، غير الفلسطينيين إلى أتون هذا الصراع، بعد أن استشعرت بعض دول الجوار كالأردن ولبنان، أنها «التالية» في قائمة ضحايا هذه الصفقة والمستهدفين بها.