بقلم : عريب الرنتاوي
في الأنباء، أن مجموعات شبابية شاركت في انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول الماضي في لبنان، تنخرط الآن في حوارات مع بعضها البعض، بهدف بلورة رؤية سياسية – اقتصادية – اجتماعية مشتركة، وتوحيد صفوفها استعداداً لجولات قادمة من الاحتجاجات، والأهم، تحضيراً لخوض الانتخابات النيابية القادمة، المقررة بعد سنتين، والمفترض أن يجري تبكيرها استجابة لمطالب المنتفضين في مختلف المدن والبلدات اللبنانية.إن نجحت هذه المحاولات، وانتهت الحوارات إلى توحيد رؤية الحركات الشبابية والاجتماعية وتنظيم صفوفها، فإن تطوراً مهماً سيكون قد طرأ على سيرورة الانتفاضات الشعبية العربية، بانتقالها من "العفوية" إلى "التنظيم"، وإن بصيغ مرنة للغاية، ومن "الشعاراتية" إلى "البرامجية"، ومن حالة الافتقار للقيادة إلى شكل من أشكال "القيادة الجماعية". حتى الآن، يصعب الجزم بمصائر هذه المحاولات، لكن مراقبتها على كثب، واستنباط دروس نجاحها أو فشلها، يبدو أمراً بالغ الأهمية، تتخطى أهميته لبنان إلى المنطقة العربية برمتها.
خلال السنوات العشر الفائتة، وبعد موجتين متعاقبتين من موجات "الربيع العربي"، قيل في الثورات والانتفاضات التي شهدتها أكثر من نصف الدول العربية، إنها "عفوية"، بمعنى غير منظمة، وتفتقر لـ"الرأس"، بمعنى القيادة، وإنها تلقائية فلم تأتٍ كثمرة لجهد فكري – تبشيري – فلسفي، كما أنها لم تنجح في إنتاج "فلاسفتها" و"مفكريها" و"منظّريها".ملايين الشبان والشابات الذين خرجوا للشوارع والميادين في المدن والبلدات العربية، لم يتدفقوا من رحم الأحزاب السياسية التقليدية القائمة. بعضهم خرج في دول ومجتمعات، لم تعرف الصيغة الحزبية يوماً. وحتى الأحزاب المنظمة التي شاركت في هذه الثورات، فقد وصلت متأخرة بعض الشيء، ممتطيةً صهوة الاحتجاجات الشبابية، ودائماً بهدف قطف ثمارها المبكرة.
ولقد رأينا في معظم، إن لم نقل جميع بلدان ومجتمعات "الربيع العربي"، كيف أمكن لأحزاب منظمة، وغالباً ذات مرجعية إسلامية، أن تقطف ثمار الانتفاضات العربية، وأن تدفع برموزها وقياداتها، لتصدر مرحلة الانتقال و"ملء الشواغر" في النظم السياسية الجديدة بمؤسساتها المختلفةوالمفارقة أن معظم الحركات الشبابية التي مهدّت لثورات "الربيع العربي" وفجرت انتفاضاته، تنتمي سياسياً وثقافياً واجتماعياً إلى مدارس مدنية وديمقراطية وليبرالية وحداثية، في حين غلبت الهوية الدينية – المحافظة على مؤسسات صنع القرار في مرحلة ما بعد الثورة / الانتفاضة، وأسباب ذلك عديدة من بينها اثنان رئيسان:
الأول، إخفاق القوى المدنية والديمقراطية في "لملمة" صفوفها والانضواء في جبهات عريضة ببرامج ورؤى تقوم على القاسم المشترك الأعظم لمواقفها وتوجهاتها، مقابل نجاح التيارات الدينية في توحيد إرادتها السياسية وتقديم نموذج مركزي متشدد للقيادة والسيطرة، مستمد من النظرية التربوية الإخوانية القائمة على "السمع والطاعة".والثاني، إخفاق الشباب في تحويل "حراكاتهم" إلى أحزاب أو قوى منظمة. لقد ابتكر الشباب صيغة "الحراك" بديلاً عن الحزب السياسي، لتوحيد جهودهم وتأطير أنشطتهم، وانتشر هذا المفهوم على نحو واسع وسريع خلالالأعوام القليلة الفائتة. بيد أنه ظل صيغة "هلامية" فضفاضة، مرتبطة بشعارات محددة وجماعات محدودة، ونطاقات جغرافية ضيقة نسبياً، لم تحمل في طيّاتها بذور استمرارها وديمومتها، ما أفسح المجال للجهات الحزبية المنظمة، للاستفراد بجني الثمار، ما إن كانت الانتفاضة أو الثورة تضع أوزارها.
مأسسة الحراك و"ملء الفراغ"
اليوم، وفي مرحلة "ما بعد جائحة كورونا" بتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية الثقيلة، وفي ضوء المؤشرات المتراكمة، عن تفاقم ميل كثير من الأنظمة والحكومات العربية نحو أنماط أكثر استبدادية في الحكم وممارسة السلطة، فإن أغلب التقديرات تشير إلى احتمال تجدد ثورات "الربيع العربي"، واتساع نطاق انتشارها، فقد تضرب دولاً لأول مرة، وقد تعاود الضرب في دول سبق لها أن ضربتها من قبل.
"سيناريو" كهذا، يملي على قوى الإصلاح والتغيير، بنشطائها ومثقفيها، التفكير ملياً في كيفية "مأسسة الحراكات" الشبابية وتنظيمها، بهدف تأمين استمراريتها وديمومتها، وضمان نجاحها في "ملء الفراغ" الناجم عن فشل السلطات الحاكمة في بعض دول المنطقة، وعدم تمكين بعض الجهات المنظمة، وغالباً الإسلامية ذات الخبرة المتراكمة والموروث التاريخي في العمل المنظم، التربوي والإغاثي والاجتماعي والخيري، من استعادة زمام المبادرة من جديد، وامتطاء صهوة الموجة القادمة من الثورات والانتفاضات العربية، بعد أن نجحت في امتطاء موجاتها الأولى وقطف ثمارها، وإن إلى حين.
تبدو الحاجة ملحة، لمنع "التاريخ من أن يعيد نفسه"، لا على صورة مأساة ولا على صورة ملهاة. والطريق الأقصر إلى ذلك، هو ما تحاوله بعض المجموعات الشبابية اللبنانية، التي لا تريد للانتخابات القادمة، أن تأتي بالطبقة السياسية الفاسدة ذاتها، وأن تعيد إنتاج نظام المحاصصة الطائفية من جديد.
لسنا متأكدين من نتائج التجربة اللبنانية على هذا الصعيد، لكن من المهم تتبعها بالنقد والدراسة، لاستلهام دروس نجاحها أو فشلها، وفي كلتا الحالتين، ثمة ما يمكن تعلمه وتعميمه على تجارب عربية عديدة، لعل العراق أقربها وأولها، حيث الحراكات الشبابية، اندلعت من خارج الأحزاب السياسية القائمة، وغالباً في مواجهتها وبالضد منها، فيما نشطاء هذه الحراكات وقادتها، ما زالوا يبحثون عن الأشكال الأنسب للتنظيم والتشبيك والقيادة، في الوقت الذي يسعون فيه لبلورة رؤاهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لعراق المستقبل الذي يتوقون إليه.
لا يكفي، بحكم التنظيم الصارم والبيروقراطي للأحزاب القائمة، وهيمنة نفر من القيادات الانتهازية والوصولية عليها، التمادي في نبذ فكرة "التنظيم"، فالحل يكمن في البحث عن أشكال وصيغ أكثر مرونة وأكثر ديمقراطية للتنظيم. ولا يكفي من باب الغضب على الأحزاب العقائدية من دينية وقومية ويسارية الفاشلة، الاكتفاء بهجاء "الدوغمائية" و"الأيديولوجيا" والوقوع في مستنقع "التجريبية" وفوضى "نظام المياومة" في إدارة الاحتجاجات والانتفاضات، فالحل يكمن في تطوير منظومة فكرية تُشتق منها برامج الثورة وخطط عملها قبل وبعد الوصول إلى السلطة. فالاحتجاجات قد تندلع من دون قيادة وتنظيم وفلسفة، وقد تنجح في إسقاط رموز النظام ووجوهه كما حصل بالفعل في عدة بلدان عربية، بيد أنها لن تتحول إلى ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولن تنجح في استحداث التغيير الجذري للنظم القائمة، ما لم تتوفر على شرط التنظيم والقيادة والفكر القادر على إنتاج الرؤى والتصورات والبرامج وخطط العمل.
قد يقال إنه "لا ثورة من دون مفكرين ولا فلاسفة"، كما حصل في تاريخ الثورات الإنسانية الكبرى، وهذا صحيح إلى حد ما، بل وإلى حد كبير، لكن غياب "المفكر الفرد" أو الفيلسوف الأوحد"، قد يعوّض عنه "التفكير الجماعي المنظم"، المنبثق عن ورشات حوار وطني واعية ومنظمة وهادفة، فما من شعب يمكن أن يرهن مستقبله بانتظار "الفيلسوف/المفكر المنتظر"... "العقل الجمعي" للحراكات الشبابية المشفوع بصيغ من "التنظيم المرن"، قد يكون بديلاً مناسباً، وربما البديل الأنسب عن "انتظار غودو".