زمن طاهر المصـري الصعب

زمن طاهر المصـري الصعب

زمن طاهر المصـري الصعب

 لبنان اليوم -

زمن طاهر المصـري الصعب

بقلم : عريب الرنتاوي

قبل عدة أسابيع، دعاني «أبو نشأت» إلى منزله، وقام بإهدائي نسخة من كتابه «حصاد الزمن الصعب»، وقبل أن أشرع في تقليب صفحات الكتاب، أوجزني بمحتوياته، فبادأته بسؤالين: ما الذي دفع بك لتجشم عناء هذه «المغامرة»؟ ... وهل أخضعت مادة الكتاب للزيادة والحذف والتنقيح والتغيير؟

أجابني بلا تردد على السؤال الثاني بـ «لا» قطعية نافية ... أما إجابته على السؤال الأول، فاستبطنت رغبة في تقديم فكره السياسي والاجتماعي إلى الأردنيين، بثوابته ومتغيراته، كما تشكل وتبلور على امتداد مسيرة في العمل العام، امتدت لأزيد من عشريات أربع من السنين.

هي مجازفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالكتاب ليس سيرة ذاتية، يمكن لصاحبها أن يعيد إنتاجها وتكييفها مدعياً الحكمة بأثر رجعي ... الكتاب يوثق بدقة لمواقف واطروحات، منشورة ومقروءة ومسموعة، وتمتد زمنياً على مسافة ربع قرن تقريباً، خرج في بدايتها العالم من نظام القطبين وحربه البارد، انهارت جدران وإيديولوجيات ومعسكرات، ونشأت أخرى على أنقاضها ... شهد خلالها الأردن والإقليم، أحداثا عاصفة وحروبا مدمرة، صعدت في أثنائها قوى وتيارات واندثرت أخرى.

من منّا بقي على موقفه وقناعاته القديمة، وسط هذا البحر متلاطم الأمواج من الانقلابات الثورية والتغييرات العاصمة؟ ... من منّا يجرؤ على استدعاء مواقف وسياسات تبناها ودافع عنها بصلابة ذات يوم، قبل أن تتقادم بفعل تلاحق الأحداث والتطورات ... أية ثوابت حملنا معنا عبر هذه الحقب والمراحل.

طاهر المصري، لم يكن قلقاً في مواجهته لهذا التحدي، أو ربما لم يمنعه بعض القلق من تجشم عناء المجازفة، ومن يقرأ «حصاد الزمن الصعب» يدرك أسباب طمأنينته ... فثمة خيوط ناظمة لكل ما ورد فيه من مقالات ومحاضرات ورسائل، تشف عن انسجام داخلي عميق وعن مصالحة حقيقية مع الذات،وتكشف عن منظومة «الثوابت» التي احتفظ بها الرجل وحفظها، طوال سنيّ تجربته في الحقل العام.

والحقيقة أنني اجتهدت ما أمكن في البحث عن توصيف دقيق لمدرسة المصري في العمل الوطني والسياسي، فلم أجد وصفاً واحداً قادراً على الإحاطة بالتجربة من جهاتها الأربع .... فالرجل ينتمي بجدارة إلى «مدرسة الواقعية السياسية» ولم يكن في مواقفه واطروحاته حالماً أو ناسكاً بعيدا عن الحياة الواقعية بتعقيداتها ومعطياتها الملموسة، ومن نافل القول، أنه لم يختبر «حالة الإنكار» التي تضرب على عقول بعض السياسيين وتحجب عنهم النظر والرؤية، كما أنه لم يكن «ثورياً» أو «انقلابيا» بحال من الأحوال.

والرجل كان ولا يزال، رائداً في «المدرسة الإصلاحية» في العمل السياسي والوطني، «والرائد لا يكذب قومه»، ورسائله المتضمنة في هذا الكتاب إلى المسؤولين وصناع القرار والرأي العام على حد سواء، تعكس هذا الجانب من تفكيره وتجربته.

وفي ظني أن طاهر المصري، تميّز عن كثيرٍ من السياسيين، بريادته وربما تأسيسه لـ «المدرسة الأخلاقية» في العمل الوطني والسياسي، وأحسب أن هذه النقطة، بالذات، هي المفتاح في فهم شخصيته، واستتباعاً مواقفه وسياساته التي اتسمت بالانسجام مع الذات، برغم تعاقب الحقب والمراحل والمناصب والمواقع.

تجربة المصري وفكره السياسي والاجتماعي كما يتجلى بين دفتي هذا الكتاب، تدحض النظريات التي تتحدث تناقض حتمي بين فضائي «الأخلاق» و»السياسة» ... صحيح أن كثرة كاثرة من السياسيين لا يقيمون وزناً للأخلاق والمنظومات القيمية في ممارستهم لعملهم السياسي والوطني، لكن هناك من لا يزال يؤمن بإمكانية «تخليق» السياسة والعمل في الفضاء الوطني العام، وأحسب أن تجربة طاهر المصري تنهض كشاهد حي وملموس على إمكانية انتصار نظرية «تخليق السياسة»، وعلى إمكانية أن تشف المواقف والأطروحات السياسية عن معدن صاحبها.

وفي ظني أن هذه النقطة بالذات، هي ما تفسر رجحان كفة «الثوابت» في فكر المصري وممارسته على «المتغيرات»، ثوابت مستمدة من منظومة قيمية، ترفض الشقاق والنفاق، وتأبى الانزلاق في حروب العصبيات القبليات، وتعظم المشترك والتوافقي، وتسعى في إشاعة الحرية والعدل، تعترف بالآخر وتحترم حقوقه، لا تميز بين الناس وفقاً لأصول أو منابت أو دين أو عرق أو جنس، تجيد الاستماع لكل رأي، والتعرف على هموم الناس واشتياقاتهم.

وأختم بالقول: عندما يؤتى على ذكر طاهر المصري، تقفز إلى الأذهان، ومن دون استئذان، جملة من الصور والمواقف:فهو المنافح من دون كلل أو ملل عن «وحدة الأردنيين الوطنية» .... وهو المبشر دوماً بدولة المواطنة المتساوية والفاعلة وعقدها الاجتماعي المتجدد مع مواطنيها ... وهو الإصلاحي- التوافقي (والتوفيقي) الذي عرف كيف يستوعب مختلف الرؤى والمشاريع، حتى تلك التي تصدر عن بعض الرؤوس الحامية.

هو المدافع عن فلسطين وحق أبنائها وبناتها في العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة ... وهو المنخرط بنشاط، ومن دون إحساس بعقدة «ازدواجية ولاء وانتماء»، في معارك  ضد العدوان والاستيطان والتهويد والأسرلة ... لم تمنعه مواقعه الرسمية التي تعاقب عليها، من الإدلاء بآرائه النقدية، التي تأخذ غالباً شكل إسداء النصح وإبداء المشورة

وهو المدافع عن قضايا العرب القومية الكبرى، وعن حقوق شعوب الأمة في الحرية والكرامة والعيش الكريم.

طاهر المصري قدم لنا هدية ثمينة، وننتظر منه المزيد في قادمات الأيام، فالرجل يتكشف عن طاقة متجددة، فأكثر من نصف كتابه الموسوم أنجز في السنوات الخمس الفائتة فقط، ما يدفعنا لانتظار المزيد من أعماله في قادمات الأيام.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زمن طاهر المصـري الصعب زمن طاهر المصـري الصعب



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon