عريب الرنتاوي
ثمة تعابير ومصطلحات، أتمنى لو أن ثمة من وسيلة لإسقاطها من قاموس السياسة العربية، مرة واحدة وإلى الأبد، من نوع: الفئة المندّسة أو الطرف الثالث والطابور الخامس، الأجندات الخارجية، الابن الضال، المغرر بهم ... كلما وردت هذه المصطلحات، أو بعض منها في خطاب مسؤول حكومي عربي، كلما أصابني الدوار والغثيان، وكلما شعرت أنني أمام محاولة جديدة/قديمة لتبرير الفشل والعجز والإخفاق ... أمام مسعى جديد، للبحث عن "شمّاعة" نعلّق عليها فشلنا وخيبتنا.
خلال الأيام والأسابيع القليلة الفائتة، صدرت مواقف وبيانات ومقالات وتحليلات من سبع عواصم عربية، مدججة بمثل هذه العبارات ... دمشق، لا تمانع في "عودة الابن الكردي الضال"، إن هو استتيب وتاب، وقبل بإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل 2011 ... حكومة عبد المهدي في العراق، لا تكف منذ أن هدأت الاحتجاجات في بغداد ومدن الجنوب، عن مطاردة "الطرف الثالث" المسؤول عن إطلاق النار على المتظاهرين ورجال الأمن سواء بسواء، أخشى أنهم يطاردون "خيط دخان" أو أنهم ذهبوا في رحلة "لاصطياد الساحرات".
الحوثي استقبل آلاف الأسرى في معركة نجران من فئة "المغرر بهم"، لكأن اليمن يخلو من الانقسامات الداخلية، وأن ما يشهده من صراعات، هي صناعة أجنبية مئة بالمئة، لا بعد وطنياً فيها، مع أن اليمن اليوم، موزّع على أربعة قوى: الحوثي، الإصلاح، "الشرعية" و"الانتقالي"، وجميعها أطراف يمنية، بأجندات جهوية/ عقائدية، متصارعة مع بعضها البعض، وتستقوي بالخارج على الداخل كذلك.
في مصر، رأينا أردنيين وسودانيين وغيرهم، يُعرضون على شاشات التلفزة وبرامجها الحوارية، بوصفهم مسؤولين عن إثارة الشغب في مصر، وما أن جرى إطلاق سراحهم جميعاً، وعادوا إلى دولهم وأسرهم، حتى أدلوا بتصريحات مناقضة تماماً لما نُسب إليهم ... لكأن مائة مليون مصري، يمكن أن تستثيرهم جهود أربعة أو خمسة شبان أجانب، بالكاد وصلوا القاهرة قبل بضعة أيام من اعتقالهم ... الأجندة الخارجية، المؤامرة من الخارج هي الرسالة التي أريد توجيهها وتعليق المسؤولية عليها، فليس في الداخل المصري وفقاً لهذا الخطاب، من سبب وجيه واحد، يدعو للغضب أو القلق أو الاحتجاج.
في الأردن، رأينا أكبر وأطول اضراب في تاريخ البلاد، إضراب المعلمين ... أثناء الإضراب، وبعد انفضاضه، رأينا من يسعى في تحميل جهة بعينها وزر استطالته ونجاحه في تحقيق أهدافه المشروعة ... مع أن حجم التعاطف الشعبي مع الإضراب والمضربين، كان أكبر بكثير من أي من أي جماعة، مهما بلغ نفوذها وتعاظم تأثيرها ... الأدهى من ذلك وأمر، أن هذه الجماعة، تنسب دائماً "للخارج"، لكأنها ليست جماعة أردنية، وحزبها ليس الأكبر من بين جميع الأحزاب ... لا أدري كيف يمكن تفسير هذا الموقف، ومن هي المرجعية الخارجية للجماعة التي تبدي اهتماماً بزعزعة الاستقرار في الأردن، علما بأن "الدول المرجعية" التي يشار إليها في العادة عند ذكر الجماعة، تحتفظ بعلاقات نامية ومتطورة مع الأردن، ونتمتع وإياها بصفحة جديدة من العلاقات الثنائية المتطورة، أقصد بذلك قطر وتركيا.
في الجزائر، لا يكف قايد صالح، قائد الجيش، عن توزيع الاتهامات يمنة ويسرى على القوى الأجنبية التي تسعى في تحريك الشارع الجزائري، علماً بأن قايد / القائد، هو نفسه، من وظّف انتفاضة الشعب الجزائري المجيدة، لتصفية "العصابة" التي تحكمت بالسلطة والثروة في البلاد ولسنوات عديدة خلت، وما كان له أن يفعل ذلك لولا الانتفاضة الشعبية ... قيادة الجيش لا تريد للجزائر أن تدخل في "مسار انتقالي" بحجة "المسار الدستوري"، وأفضل ذريعة لإدارة الظهر لمطالب المحتجين، تتجلى في نِسبة احتجاجاتهم إلى عوامل ودوافع أجنبية/ خارجية.
عمر حسن البشير، ومن بعدها البرهان وحميدتي، لم يجدوا في قاموسهم سوى هذه التعابير والمصطلحات ليغرفوا منها، في تفسير واتهام انتفاضة الشعب السوداني البطلة، فالأجندات الخارجية كانت حاضرة بقوة، و"الطرف الثالث/ الفئة المندسة/ الطابور الخامس"، كان لهم حضوراً طاغياً في الحملة المضادة للثورة، حتى وإن لم تجد بضاعة المجلس العسكري من يشتريها من بين السودانيين.
أما القاسم المشترك الأعظم في خطاب هذه "المدرسة" فهو من النوع المضحك /المبكي: نتفهم مطالب المحتجين ونلعن احتجاجاتهم ...نتفهم مظلوميتهم وننسبها لمن سبقونا من دون أن نأتي ولو مروراً، على مسؤوليتنا عن تشكيل هذه "المظلومية" وتفاقمها، او على الأقل، تقاعسنا عن العمل لتجاوزها وتبديدها، والاكتفاء بوابل من الوعود والتعهدات التي لا تطلع عليها شمس اليوم التالي، فكلام اليل العربي البهيم، تمحوه نهاراتهم المكفهرة واللافحة.