لا يبدو أن تغيرا عميقا سيطرأ على وجهة تطور الأحداث في المنطقة العربية بعد مرور "عاصفة كورونا"، وأغلب الظن، أن جملة الأزمات المركبة التي مرت بها المنطقة، لا سيما في السنوات العشر الأخيرة، ستواصل تفاقمها، وبشروط قد لا تكون مواتية تماما لمعظم إن لم نقل جميع اللاعبين من الداخل والخارج.
"المزيد من الشيء ذاته"، هو السيناريو الأكثر ترجيحا للإقليم على المدى القريب.
ستة تحديات، عصفت بالمنطقة أو كادت، في العشرية الثانية من القرن الحالي، من المنتظر أن تبقى ماثلة أمام دولها وشعوبها في العشرية الثالثة، التي استهلتها البشرية بجائحة كبرى، تنذر بتحولات جذرية تجعل العالم بعدها غير ما كان عليه قبلها:
أولا: الإرهاب؛ شهد العقد الفائت صعود وهبوط التهديد الإرهابي للمنطقة برمتها، امتد ليطاول أقاليم ودولا بعيدة عنها، وكان تنظيم "داعش"، و"خلافته" الممتدة على مساحات واسعة من "سوراقيا" عنوانا رئيسا (وليس وحيدا) لهذا التهديد. "صيحات النصر" السابقة لأوانها على الإرهاب، لم تُخف قلق دوائر استخبارية عديدة من مخاطر عودته، بثوبه القديم، أو بأثواب جديدة... فيما تقديرات الخبراء تذهب للقول إن الأسباب التي أفضت إلى صعود ظاهرة الإرهاب، ما زالت قائمة، وأن تجريد "دولة الخلافة" من مؤسساتها و"جغرافيتها" لا يعني تجريدها من أدواتها الفاعلة في التعبئة والتحريض والتجنيد.
اليوم، وتحت جُنح "كورونا"، وانشغال حكومات الإقليم وأجهزتها الأمنية والعسكرية بمواجهة الفيروس، وتبدل أولويات عواصم القرار الدولي المنكوبة بالجائحة، يجد التنظيم فرصته لالتقاط أنفاسه، وتجميع فلوله، وإعادة بناء عناصر قوته واقتداره، وقد بات قادرا على تنفيذ هجمات مؤلمة ومباغتة، وسط معلومات وتقارير تتحدث عن عودة التهديد من جديد. كما أن "فرصة كورونا" التي توفرت لـ"داعش"، اليوم، تتوفر لتنظيمات إرهابية أخرى في سورية وسيناء وليبيا ودول الساحل والصحراء وغيرها.
ثانيا: النزاعات الإقليمية وحروب الوكالة؛ ليس ثمة ما يشير إلى "ضوء في نهاية النفق" حتى مع "خفض التصعيد" الذي أملته انشغالات الأطراف المتورطة في هذه الحروب والنزاعات... السلاح ما زال يصل بكثافة إلى أطراف الحرب الليبية، والدول الراعية للأطراف تواصل حشد قواتها النظامية ومرتزقتها... سورية تنتظرها معارك مركبة في شماليها الشرقي والغربي، وسط مؤشرات على تحول "حروب الوكلاء" إلى مواجهة مباشرة بين "الأصلاء"، وتركيا تواصل حشد قواتها، وبروتوكول موسكو الأخير، لم يقنع "النصرة" وحلفاءها، والحوار بين القامشلي ودمشق، يصطدم بسقف الأكراد العالي وأرضية النظام الخفيضة، فيما الصراع التركي ـ الكردي يتحول مع الأيام إلى "حرب إلغاء"، أقله من جانب أنقرة.
اليمن بدوره، يبدو مثالا صارخا على صراع لا نهاية وشيكة له، "هدنة الأسبوعين" التي أعلنتها الرياض، تُقابل بتشكيك من صنعاء، وبإصرار الحوثي على رفع كامل للحصار، والمبادرة التي قدمها الأخير لمارتين غريفيت، ليس منتظرا أن تجد رواجا في أوساط خصومه وداعميهم، والصراع اليمني المركب، يضع كل فريق من أفرقائه المحليين في مواجهة مع الأفرقاء الآخرين: الحوثي في مواجهة "الشرعية"، والأخيرة في مواجهة "الانتقالي"، والأخير في مواجهة "الإصلاح"، وإخوان اليمن في مواجهة "روافض صنعاء"، دوامة لا يُعتقد أن شروط الخروج منها قد نضجت.
ثالثا؛ قطار الربيع العربي، الذي أوقفته جائحة كورونا عن الحركة مؤقتا، من المتوقع أن يستأنف سيره، وربما على نحو أعمق وأشمل بعد أن تضع الحرب على "كورونا" أوزارها.. فمن الواضح تماما أن انتفاضتي الشعبين اللبناني والعراقي ضد فساد "نظام المحاصصة"، وهيمنة الأحزاب الدينية، والتبعية لإيران، قد "عُلّقتا" دون أن تنجزا جداول أعمالهما بعد، وأن "هدنة كورونا" ليست سوى "ترتيب مؤقت"، سيعاود بعدها المنتفضون مزاولة حراكهم، لا سيما وأن الجائحة، بتداعياتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية، ستجرف إلى صفوفهم، فئات أوسع من الطبقة الوسطى "المُفقرة".
أما في الجزائر والسودان، الدولتين اللتين شكلتا مع لبنان والعراق، الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، لم تمنع "هدنة كورونا" المؤسسة العسكرية و"الدولة العميقة" فيهما، من مواصلة جهودهما لإجهاض القوى المدنية والشبابية التوّاقة للحرية والتغيير، وقد ساعد فرض "طوارئ كورونا"، إلى تمكين جنرالات البلدين، من استخدام أدواته في لجم الحراك الشعبي والتضييق على الحريات العامة.
وقد تتنقل قاطرة الربيع العربي إلى عواصم أخرى، غير دول الموجة الثانية الأربع، لا سيما إن أخفقت حكوماتها في التعامل الكفؤ والشفاف مع الجائحة، وإن عجزت كما هو مرجح، عن احتواء ذيولها الاقتصادية والاجتماعية.
وقد تُسرّع جائحة كورونا، معطوفة على إرهاصات ركود عالمي وانهيار أسعار النفط، وتفاقم عجوزات ميزانيات حكومات خليجية، إلى نهاية حقبة "الدولة الريعية"، وتشريع أبواب نادي الملكيات الثرية، لهبوب رياح التغيير، وربما قبل انتهاء العشرية الثالثة من القرن الحالي.
رابعا: الدول الفاشلة واللاعبون "اللا- دولاتيون، Non-State Actors"...قبل الربيع العربي وبعده، قبل جائحة كورونا وبعدها، كانت ظاهرة "الدول الفاشلة" تتفشى في الإقليم، وليست "الصوملة" سوى تعبير متطرف قليلا، في وصف ما يجري في العديد من الدول العربية، رادفتها عبارات من نوع "العرقنة" و"السورنة" و"اللبننة" و"اليمننة" وغيرها.
الأداء غير الكفؤ لاحتواء جائحة كورونا، وعِظَم الأعباء والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عليها، ستدفع بدول عربية أخرى، إلى الفشل... ومثلما أسهم انهيار الدولة الوطنية وعجزها عن القيام بوظائفها، في تفشي ظاهرة "اللاعبين اللا- دولاتيين" في كل من العراق واليمن ولبنان وفلسطين وليبيا وسورية، واضطلاع بعضهم بأدوار تفوق أدوار حكومات بلدانهم، وتحولهم إلى أدوات في حروب الوكالة بين العواصم الإقليمية، فإن إخفاق المزيد من دول المنطقة في التصدي للجائحة واحتواء تداعياتها، قد يفضي إلى "تعميم" الظاهرة وانتقالها إلى دول ومجتمعات أخرى.
خامسا: العرب وجوارهم الإقليمي، إذا كانت السنوات العشر الأخيرة، قد تميزت بتعاظم أدوار دول الجوار الإقليمي للعالم العربي (تركيا وإيران) واضطلاعها بأدوار فاعلة في قيادة "محاور عربية" متصارعة فيما بينها، فإن السنوات العشر المقبلة، ستشهد انبثاق لاعب إقليمي ثالث صاعد: إثيوبيا، بما لها من تأثير كبير أقله في دول حوض النيل والبحر الأحمر.
على أنه من الصعوبة بمكان التكهن بالمآلات التي ستنتهي إليها أدوار هذه الدول الثلاث في العالم العربي... إيران تواجه صعوبة في الحفاظ على نفوذها في كل من العراق وسورية، ولديها خصوم ومنافسون كبار في سورية، ووضعها الداخلي، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ينذر بشتى الاحتمالات، و"كورونا" حلّ عليها كطامة كبرى... فيما "الأردوغانية" في تركيا، تواجه تحديات متزايدة في الداخل، تتفاقم على وقع الفشل في إدارة ملفات السياسة الخارجية... أما إثيوبيا، التي تمر بمرحلة انتقال حساسة سياسيا واقتصاديا، فتبدو مرشحة لأن تكون قوة صاعدة ومؤثرة في هذا الجزء من العالم.
إسرائيل، اللاعب الإقليمي الرابع، وبعد أن حققت تفوقا استراتيجيا في السنوات الأخيرة، تتلطى بجائحة كورونا، لتعزيز جبهتها الداخلية، ليس لمواجهة خطر الفيروس اللعين فحسب، بل ومن أجل إتمام مشروعها: "إسرائيل الكبرى"، والانتقال إلى ترجمة أحادية الجانب، للمبادرة أحادية الجانب، المعروفة اختصارا باسم "صفقة القرن"... نتنياهو على رأس معسكر اليمين، نجح في تفتيت خصومه، وسيعود رئيسا لحكومة خامسة، تحت مسمى "الطوارئ"، والمفاوضات مع منافسه بيني غانتس، تتركز حول الجداول الزمنية لضم المستوطنات وغور الأردن وشمال البحر الميت.
في المقابل، يبدو المشهد الفلسطيني في حالة تآكل استراتيجي، فلا "الصفقة" ولا "الجائحة" نجحت في إنهاء الانقسام الداخلي، ولا النظام السياسي الفلسطيني مقبل على خطوات من شأنها تجديد شرعيته وقدرته على مواجهة تحديات انهيار المشروع الوطني الفلسطيني.
سادسا: أي نظام عالمي سيأتي من بعد جائحة كورونا؟ سؤال يتردد في مختلف عواصم العالم، بيد أن للسؤال وقعا خاصا في عواصم الإقليم... فهذه المنطقة، كانت حقل الاختبار الأول عند الانتقال من نظام "الثنائية القطبية" إلى نظام القطب الواحد زمن حرب الخليج الثانية... وهذه المنطقة، هي أول إقليم يختبر صعود قوى دولية تتحدى الأحادية القطبية: روسيا في سورية والمنطقة عموما، والصين في سياق مبادرة "الطريق والحزام"... وهذه المنطقة عانت فراغ قوى دولية، بما فيها تراجع اهتمام الولايات المتحدة بها، حيث سارعت قوى إقليمية، لملء فراغ القوى الدولية.
وبانتظار الشكل الذي سيستقر عليه النظام العالمي الجديد، في مرحلة ما بعد "كورونا"، فإن المنطقة ستظل تعيش حالة "انعدام اليقين"، وستظل هدفا لأطماع القوى والمراكز الإقليمية الكبرى، "التدخلية" بطبيعتها السكانية والجغرافية و"التوسعية" بحكم إرثها الإمبراطوري التاريخي.