عريب الرنتاوي
استحضر السيد أحمد العاصي الجربا رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارضة، لاءات الخرطوم الثلاث للتعبير عن موقفه من النظام السوري: لا صلح، لا تفاوض ولا اعتراف بهذا النظام، ليبني على هذا الموقف شروط مشاركته في مؤتمر "جنيف 2"، والتي يمكن تلخيصها بتنحي الأسد وخروجه من مستقبل سوريا.
ولست أدري لماذا يظن الجربا، بأن مصير لاءاته الثلاث، سيكون مختلفاً عن المصائر التي انتهت إليها لاءات قمة الخرطوم، التي انقلبت جميعها إلى "نعمات"، واندرجت مؤخراً في سياق نظرية "التوسل والتسول" التي أسسها لها وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم، وصح في قائليها قول الشاعر: لولا التشهد لكانت لاؤه نعم" ... حتى أن القمم العربية المتعاقبة، عمدت إلى إتباعها بـ"بسلة مغريات" تستجدي الصلح والتفاوض والاعتراف، حتى وإن تطلب الأمر، التطبيع قبل التوقيع، وتعميم "الصفقة المذلة" على 57 دولة إسلامية، وعدم حصرها في 22 دولة عربية فقط.
فكرة "جنيف 2" ، كما "جنيف 1" تقوم على الاعتراف المتبادل والتفاوض المباشر وصولاً إلى الصلح والمصالحة ... النظام يعترف بالمعارضة ويقر باستحالة اجتثاثها، والمعارضة تعترف بالنظام وتقر بتعذر اسقاطه، وكل من النظام والمعارضة، يتفاوضان ويتحاوران، وصولا للصلح والتوافق حول "خريطة انتقال سياسي" بسوريا من أتون الحرب الجائرة الدائرة فيها وعليها، إلى فضاءات الحل السياسي والوفاق الوطني وإعادة الإعمار، دع عنك مسائل من نوع الحرية والديمقراطية والتنمية والعيش الكريم.
وفيما كان الجربا في لندن يردد بقوة لاءات الخرطوم، ويحمل على المجتمع الدولي الذي يريد تحميل المعارضة ما لا قبل لها به أو عليه، كان نظيره في المجلس الوطني السوري جورج صبرا يقود اعتصاماً رمزياً متواضعاً أمام القنصلية الروسية في إسطنبول، احتجاجاً على الموقف الروسي الداعم للنظام المجرم، بل وتنديداً بالمجتمع الدولي والدول الكبرى والمنظمات الحقوقية والإنسانية والاجتماعية، بل العالم بأسره، الذي يقف صامتاً حيال مجزرة الغوطة وحصارها.
مثل هذه المواقف، المشحونة بالغضب والتشنج، تعكس إحساس المعارضة السورية بالخيبة والإحباط، فقد سقطت جميع رهاناتها على العسكرة والتدخل والحسم والحظر الجوي والضربات الخاطفة ... وبات مطلوباً منها اليوم، أن تنضوي تحت لواء الحل السياسي للأزمة السورية، وقد يطلب منها غداً أن تعمل تحت إمرة الجيش السوري لمطاردة النصرة وداعش، ولا أحد يدري كيف ستتطور الأمور وتتداعى.
إن كان هناك من ينبغي أن يُلام على الحالة التي آلت إليها المعارضة السورية، فهو المعارضة نفسها، ولا أحد غيرها ... فهي وحدها من ظل يعتقد بأن التدخل العسكري سيأتي وإن بعد حين، وأذكر ذات مرة، أن سفيرة دولة كبرى لدى المعارضة السورية سألتني إن كنت أعرف وسيلة لإقناع المعارضة بأنهم لن يتدخلوا عسكرياً في سوريا، بعد أن "عيل صبرها" وهي تحاول إقناعهم بأن لحظة التدخل لن تأتي أبداً .... وأذكر مرات ومرات، قمنا فيها بترتيب لقاءات بين معارضين سوريين وجهات دولية، بُحّت خلالها حناجر المتحدثين الدوليين وهو يؤكدون انتفاء الرغبة لديهم بالتدخل العسكري، من دون أن تجد أحاديثهم آذناً صاغية لدى مستمعيهم السوريين.
لقد بنت هذه المعارضة استراتيجية ذات بعد واحد، قائم على فكرة التدخل، وما العسكرة التي تحمست لها أطياف عديدة، بدفع من دول الإقليم وبعض العواصم الدولية، سوى استدراج للتدخل واستدرار للصواريخ والقذائف الأطلسية، ولهذا السبب بالذات، ما زالت جريمة الكيماوي في الغوطة - بالنسبة لنا - سؤالاً مفتوحاً، يحتمل اتهام النظام وغيره، فثمة أطراف عديدة، رأت في التدخل العسكري الدولي، فرصتها الوحيدة للانتصار في معركة سوريا، بدليل ما نشهده من سورة غضب سعودية، عبرت عنها الرياض بالمواقف والإجراءات التي اتخذتها مؤخراً، وكذا يفعل حلفاء الرياض في المعارضة السورية، من الجربا إلى صبرا.
في التجارب الديمقراطية، وحتى الثورية المحترمة، ينسحب القادة من المسرح ما أن يتأكد فشل سياساتهم وعقم خياراتهم، مفسحين في المجال أمام قيادات جديدة وبدائل أكثر صدقية، أما في حالة المعارضة السورية، فإن القوم يجنون الفشل تلو الأخر، وهم لا يفكرون إلا بتنحية الأسد، أما أن يتنحوا هم بفعل ما قارفوا من أخطاء وما طاش لهم من "رهانات" فهذا لا يبدو أمراً مألوفاً أو مدرجاً على جداول أعمالهم.
يؤسفنا أن نطمئن الجربا وصبرا، بأنهما سيعترفان ويتفاوضان مع النظام بل وسيتصالحان معه، وأن هذا الأمر سيحدث في وقت قريب، بل وأقرب مما يتوقعون، فمفاتيح الأزمة السورية، باتت اليوم في جيبي بوتين وأوباما، لا في جيبيهما ولا في جيوب حلفائهم الإقليميين، الذين أعماهم الغضب فجاءت ردات أفعالهم مثيرة للعجب.