عريب الرنتاوي
يخطئ الجنرال عبد الفتاح السيسي إن هو اعتقد أن "شعبيته" الجارفة في أوساط الرأي العام المصري، لا حدود لـ"صلاحياتها" ... ويخطئ أيضاً إن هو ظنّ أن "الكرم الحاتمي" الذي تظهره دول عربية حيال مصر تحت قيادته، يمكن أن يستمر إلى ما شاء الله ... لا هذه باقية ولا تلك، وعلى الجنرال أن يحسن التصرف وأن يستثمر اللحظة في وضع مصر على سكة النهوض من جديد.
لا شك أن الجنرال السيسي هو الرجل الأكثر شعبية في مصر، وثمة تقديرات ترجح فوزه في أول انتخابات، ومن دون حاجة للتزوير، ومن الجولة الأولى وبأغلبية قد تصل إلى 70 بالمائة ... وهذا وضع لا يتوفر لغير السيسي من الشخصيات المصرية على الإطلاق ... لكن أهم ما في الأمر، أن هذا الوضع لن يستمر إلى الأبد، وشعبية السيسي ليست شيكاً على بياض، وقعه الشعب المصري مرة واحدة وإلى الأبد، فثمة مشكلات طاحنة تقض مضاجع المصريين، وتنغص عليهم حياتهم، وتحول دون تمتعهم بقطف ثمار أعظم ثورتين شعبيتين فجرهما هذا الشعب العظيم في غضون سنتين فقط.
وما لم يوظف السيسي "فترة السماح" التي منحها له الشعب المصري، بكرم وسخاء، لمعالجة مشكلات الاقتصاد والتعليم والصحة والخدمات والفقر والبطالة ومستويات الأجور والمعيشة، فإن "ثورة ثالثة" قد تطرق الأبواب بأقرب مما يظن كثيرون، وقد يكون شعارها إسقاط السيسي وإعادة الجيش إلى "البركسات"، فالشعب الذي خرج بالملايين إلى الشوارع لإسقاط نظامين عاتيين، قادر على أن يفعلها مرة ثالثة.
إن معالجة هذه المشكلات، لن تكون نزهة قصيرة بأي حال من الأحوال، وليس ثمة من وصفة سحرية يمكن أن تُخرج مصر من عثراتها، والأغلب أن أية استراتيجيات للحل، ستحتاج إلى سنوات طويلة قادمة لكي تعطي ثمارها ... لكن لا بد من البدء من "نقطة ما"، وبشراكة حقيقية مع مختلف مكونات وأطراف الثورتين المصريتين، ولا أقول ثورة يونيو فقط، بحيث يتحمل الجميع، ومن دون استثناء أعباء النهوض بمصر من الداخل من جهة، وإحياء دورها في الخارج من جهة ثانية.
قد تبدو الأوضاع لاقتصادية والاجتماعية الآن تحت السيطرة، لكن الفضل في ذلك يعود إلى الدفق المالي والنفطي الذي ينطلق من السعودية وشقيقاتها الخليجيات ليصب مباشرة في العروق المتيبسة للاقتصاد المصري، وفي صورة تشبه إلى حد كبير، عمليات التغذية الصناعية التي تعطى للمريض في غرف الإنعاش، وهذه لن تستمر على أية حال، وليس من الطبيعي أن تستمر في جميع الأحوال، فمن دلائل الشفاء من المريض، أن يصبح جسم المريض قادر على تحضير غذائه وتمثله بنفسه، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة تحت السطح وفوقه، سرعان ما ستنفجر، ما أن تتوقف شرايين الدعم الخليجي عن العمل.
ليس أمام العهد المصري الجديد، سوى تسريع العمل بخريطة المستقبل، والحرص على توسيع المشاركة في الحكم، وعدم إقصاء أحد، بمن فيهم "الإخوان المسلمون" ... يجب أن يتحمل الجميع مسؤولية النهوض بهذه الأعباء، وإلا سيكون بمقدور أي فريق، ان يقلب الطاولة على رؤوس الجميع، مستفيداً من جسامة التحديات التي ستواجه أي حكم في مصر، وربما لعشر سنوات أو عشرين سنة قادمة، وعندها قد لا يجد السيسي من ينتصر له بمليارات الدولارات، وبكل هذه الحماسة للتغيير في مصر، بل وربما يجد، وتجد مصر من ورائه، من لا يريد لها أن تنهض من كبوتها، ويسعى لدفن نهضتها ودورها تحت الأنقاض والخرائب.
نخشى على مصر من "الركون" للحظة الانتشاء بالتغيير والدعم الخليجي غير المسبوق ... نخشى عليها من "كرم" بعض العرب، وما يخفيه من أجندات ليس الإصلاح و"المصالحة" والتحول الديمقراطي من بينها ... نخشى على مصر من مظاهر "الأسطرة" التي تحيط بالسيسي، حتى من قبل أن يتقدم بلائحة إنجازاته عن المرحلة القادمة، والتي يصعب القول، أنها كانت خالية من نزعات العسكرة والتضييق على الحريات وتكميم الأفواه.