عريب الرنتاوي
قرار النظام "الانتقالي" في مصر، بطرد السفير التركي من القاهرة، واستدعاء السفير المصري من أنقرة، يشبه إلى حد كبير قرار النظام المصري "المعزول" بقطع العلاقات مع سوريا وسحب الممثلين وإغلاق الممثليات ... والقراران يشبهان بدرجة أو بأخرى، قرارات النظام "المخلوع" بتقطيع أواصر العلاقة مع طهران، وخفضها إلى أدنى مستوياتها، بل وأحياناً كثيرة إدخالها في دائرة "العداوة المستفحلة"، فكيف ذلك.
لا تستطيع دولة كبيرة كمصر، نتطلع لنجاحها في استعادة زمام المبادرة، والخروج من "شرنقة" المشكلات الداخلية إلى فضاءات الدور التاريخي لمصر، لا تستطيع دولة محورية كهذه، ان تتصرف بنزق وانفعال، أو أن تقطّع أواصر صلاتها السياسية والدبلوماسية وعلاقاتها الاقتصادية والتجارية، مع دول رئيسة في المنطقة، كتركيا وسوريا ومن قبل إيران ... مثل هذه القرارات الانفعالية، ستكون بمثابة إطلاق الرصاص على الأقدام، فتستحيل حينها الحركة والتقدم إلى الأمام.
لسنا غافلين عن "حماقات" السياسة الخارجية التركية، ولقد انتقدنا ونددنا بالمواقف الرعناء لحكومة العدالة والتنمية، وانحيازاتها الحزبية و"العقائدية" لفريق من المصريين على حساب فريق آخر، ولم نأخذ على محمل الجد، ادعاءات أنقرة بأنها تتنصر في مصر لـ"منظومة القيم" التي تحكمها، فهذه المنظومة سقطت في الاختبار مع المتظاهرين في ساحات "تقسيم" و"غازي"، وفي التعامل مع الصحافة ووسائل الإعلام التركية ... ونتفهم تماماً دواعي القلق المصري من "الثرثرة" التركية التي تتوقف عن الدعوة لـ"عودة الشرعية" والتباكي على واقع "الحريات" في مصر.
لكن لتركيا مع ذلك، دور رئيس في المنطقة، وليس من الحكمة لأسباب سياسية أولاً، واقتصادية وتجارية واستثمارية من المقام الثاني، أن تتردى العلاقات بين القاهرة وأنقرة إلى حضيض القطيعة والتراشق الإعلامي ... ولا نخال أن عاقلاً يمكن أن يصدق ما تتداوله وسائل إعلام مصرية "هابطة" من معلومات عن صلات تركية بإرهاب سيناء وعن حقائب دبلوماسية تركية مدججة بكل ما يدعم الإرهاب ... مثل هذه الروايات البائسة، تذكرنا بحكاية "التخابر مع حماس" التي يحاكم عليها الرئيس المعزول هذه الأيام، وصدرت قبل أيام قرارات قضائية بمنع النشر عن جلساتها ومداولاتها ... هناك أسباب كثيرة لتأزم علاقات مصر مع كل من تركيا وحماس، ولسنا بحاجة لكل هذا الخيال "البوليسي" الهابط، حتى نضيف إليها أسباباً دراماتيكية إضافية.
وقبل ذلك، أخذتنا الدهشة، ونحن نرى رئيس مصر (المعزول)، تأخذه حمى المنابر، ويعلن القطع والقطيعة مع سوريا، محاطاً بلفيف من "المجاهدين" و"المحرضين على الكراهية والدم" وبعض شيوخ الفتنة والظلام ... يومها قلنا إن هذا لا يليق بمصر، وليست هذه هي مصر التي نعرفها ... فتاريخ العلاقات بين مصر وسوريا، لا يحتمل مثل هذه القرارات الرعناء، التي تضيف قيداً على الدبلوماسية المصرية، وترسم حدوداً لما يمكن لمصر أن تلعبه من أدوار.
ولطالما كنّا من الداعين، لعلاقات عربية – إيرانية متوازنة، بدءاً بمصر، التي إن تقاربت مع إيران تقارب العرب معها، وإن عادتها عادوها، لكن مصر "المخلوع" وما قبله، آثرت الإندراج في السياق العربي، بحقبته البترودولارية، التي وضعت إيران، قبل إسرائيل، على رأس مهددات الأمن القومي العربي، وهي حقبة ممتدة بقليل من النجاح، أو بالأحرى بكثير من الفشل، حتى يومنا هذا، بدلالة هذا الاشتباك مع الولايات المتحدة، على خلفية امتاع الأخيرة عن توجيه ضربة عسكرية لسوريا وفتح صفحة جديدة مع إيران.
مصر أكبر دولة عربية، تقود ولا تُقاد، وللقيادة أكلاف ومسؤوليات، لا تسمح بالإسراع والتسرع في تهديم الجسور وإغلاق قنوات الحوار والتواصل ... مصر بقرارها هذا، تعيد إنتاج ذات السياسة الرعناء التي انتهجتها أنقرة، بل وتستعير من "الأردوغانية"، بعض أدواتها.
حقاً لقد بتنا نخشى على مصر مما هي ذاهبة إليه ... انسداد في مسار الحريات في الداخل، واقتراب من أجندات بعض دول الاقتدار النفطي في الخارج ... كل هذا على وقع الترحيب الأمريكي – الغربي المستجد، والبالغ حد اتهام الإخوان باختطاف ثورة يناير وسرقتها، وصولاً إلى رفع العقوبات عن "الانقلاب" بدءاً من لندن.
نخشى على ثورة الثلاثين من يونيو أن تكون بدورها عرضة للاختطاف والسرقة، ما يعيدنا إلى حديث "الأجندات الثلاث" المصطرعة على أرض الكنانة وفوقها: أجندة الفلول والنظام المخلوع المدعومة بترودولارياً، أجندة الإخوان المدعومة من قطر وتركيا، وأجندة شباب مصر التوّاق للحرية والاستقلال والذي على ما يبدو، لا بواكي له.