عريب الرنتاوي
تحولت "المصالحات الوطنية" في البلدات والأحياء السورية المختلفة، إلى ظاهرة متعاظمة وواسعة الانتشار، وهي مرشحة وفقاً لمصادر السلطة والمعارضة على حد سواء، لمزيد من التوسع والانتشار، الأمر الذي يستوقف المراقب ويستدعي المحاولة في قراءة هذه الظاهرة، سيما وأنها نجحت في إطفاء جبهات وبؤر توتر ساخنة، استهلكت المئات من الأرواح البريئة وغير البريئة، وتكلفت الشعب السوري بمئات ملايين الدولارات من الخسائر في العقار والبنى التحتية، فضلاً عن "المصاب الجلل" في النسيج الاجتماعي والوطني السوري.
من قدسيا إلى المعظمية، مروراً بعدد كبير من قرى وبلدات ريفي دمشق وحمص ومخيم اليرموك، وربما في الزبداني والحجر الأسود والتضامن، تأخذ المصالحات الوطنية، شكل الظاهرة عميقة الدلالات والأبعاد، مثيرة الانقسام في تفسير معناها ومغزاها ومآلاتها، داخل المعارضة من جهة، وبين المعارضة والسلطة من جهة أخرى.
النظام، عبر رموزه ووسائطه الإعلامية، يرى في الظاهرة، عودة إلى حضن الوطن، في البدء جرى الحديث عن "عودة الابن الضال"، لكن الخطاب الرسمي الذي رأى في الظاهرة عنصر قوة له، عاد للحديث عنها بلغة أكثر توازناً واتزانا ... وفي الشروحات الرسمية للظاهرة، أن السوريين إن تركوا وحدهم، من دون تدخل الغرباء وتآمر المتآمرين، سيجدون حلولاً أقل كلفة لأزمتهم، ودائما "تحت سقف الوطن والدولة".
في المقابل، رأى معارضون في الظاهرة، دلالة على ضعف النظام، وعدم قدرته على الحسم والاجتياح وإعادة المتمردين بالقوة إلى "بيت الطاعة"، هؤلاء وبعضهم حديث العهد بالمعارضة، وعمل سابقاً على مقربة من بعض مؤسسات النظام الأمنية، وقام بوظائف شديدة الوضاعة، يرى أن النظام فقد الكثير من قواته، وأنه يدّخر ما تبقى منها للدفاع عن عاصمته، ولهذا يجنح للمصالحة مع خصومه والخارجين عليه.
أما بعض المعارضة الآخر، ممن لا زال "عقله في رأسه"، فهو يرى في الظاهرة، تهديداً للمعارضة، وإضعافاً لصدقية خطابها، وزعمها تمثيل الشعب، بل وقولها إن الشعب كله يقف صفاً واحداً في مواجهة الأسد وعصاباته، لا أكثر ولا أقل ... هؤلاء يعزون الظاهرة إلى جملة أسباب منها، بل وأهمها، فشل المعارضة في توحيد صفوفها، وتقديم بدائل مقنعة، ودخول أطرافها المسلحة في حالة اقتتال واحتراب فيما بينها، والأهم إخفاقها في إدارة "المناطق المحررة"، وتوفير الأمن والأمان والخدمات لسكانها، ما جعل المواطنين، يفرون من "نار المعارضة" إلى "رمضاء النظام".
من جهتنا نرى أن للظاهرة أسباب ودلالات، تتخطى محاولات التوظيف المتبادلة بين النظام والمعارضة، فهي من جهة، تنهض شاهداً على ضيق السوريين بالحرب الطويلة التي استهلكت أرواح وحيوات عشرات الألوف منهم، وأحالت يومياتهم إلى جحيم لا يطاق ... وهي من جهة ثانية، تعبير عن "اليأس" من إمكانية "حسم الحرب" لصالح فريق من الفريقين، لا الآن ولا في المدى المنظور ... وهي من جهة ثالثة، تعبير عن ضيق الناس بأكثر من 1500 فصيل مسلح، يدعي كل منها أنها الأصدق تعبيراً عن تطلعات الشعب السوري، فيما على الأرض، تبدو المناطق الخاضعة للنظام أفضل حالاً من المناطق الخاضعة للسلطة، إن لجهة الأمن والأمان، أو لجهة الخضوع لقانون "جائر"، هو بكل المعايير، أرحم وأكثر مدنية، من قانون "داعش" و"النصرة" و"الجبهة الإسلامية" وفلتان "الجيش الحر" وتفتته وحروب "الأخوة الأعداء".
والظاهرة كما نراها، ليست تعبيراً عن "يأس" رجل الشارع السوري من فرص الخلاص القريب حسب، بل وتعبير كذلك، عن "يأس" الأطراف المحتربة من قدرتها على حسم المعارك، أو في أقل تقدير، إدراكها للأكلاف الهائلة لمعارك الحسم العسكري.
بخلاف ما يقال، فإن تفشي هذه الظاهرة وانتشارها، يصب في مصلحة النظام السوري أساساً، وهي إذ اتسعت في أعقاب التقدم الذي حققته النظام ميدانياً، فإنها تعبر عن "لحظة قوة" وليس عن "لحظة ضعف" يمر بها النظام، والمؤكد أنها ظاهرة محرجة للمعارضة تماماً، وتتعاكس مع منطق خطابها، وإذا ما قُدّر لها أن تتسع أكثر وأكثر، فقد تجهز على هذا الخطاب، ولا تُبقي منه بقية باقية.
والأهم من ذلك كله، أن المصالحات إذ وقعت في المناطق الخالية من "الجهاديين" الأجانب (الغرباء) أو بعد رحيلهم عنها، فإن تُكسب نظرية النظام عن مسؤولة "الخارج" في تأزيم مشكلات "الداخل"، صدقية عالية، لذلك لم يكن مستغرباً أن يركز الإعلام السوري الرسمي على العبارات التي تصدر عن مواطني هذه المناطق، والتي عادة ما تُلقي باللائمة على "الغرباء"، وتؤكد أن السوريين قادرون على حل مشكلاتهم سريعاً، إن هم تركوا لوحدهم، أو في حال توقفت حروب الآخرين عليهم.