«الخديعة الكبرى»

«الخديعة الكبرى»

«الخديعة الكبرى»

 لبنان اليوم -

«الخديعة الكبرى»

بقلم : عريب الرنتاوي

رفعت واشنطن «رهانات وتوقعات» اكراد سوريا إلى عنان السماء، ثم أنزلتها إلى أسفل درك ... وستدخل «الخديعة الكبرى» التي مارستها الإدارة الأمريكية مع الحركة الكردية السورية، تاريخ هذه الأمة المنكوبة بالتقسيم والتمييز والتهميش وتكالب القوى الدولية والإقليمية عليها، بوصفها فصلاً جديداً من فصول «التراجيديا» الكردية.

ما كان لأكراد سوريا أن يطلقوا العنان لأوهامهم ورهاناتهم، لولا «كلام» سمعوه، و»تعهدات» قُطعت» لهم من قبل الدولة الأعظم ... لقد رأوا السلاح يهبط عليهم مدراراً كالمطر الغزير، واستمتعوا باستضافة خيرة الخيرة من المدربين الأمريكيين والدوليين، وسًخّر سلاح الجو الأمريكي بما امتلك من قدرات تدميرية فائقة، لتغطية سمائهم، وتجندت الاستخبارات الأمريكية لتزويدهم بكل ما وصل إلى مسامعها من معلومات عن الخصوم، وانتشرت القواعد العسكرية الأمريكية (أو نويّاتها) في مناطق سيطرتهم، وحطت على مدارجها الطائرات المقاتلة في حالة التأهب والاستعداد، وتوالى وصول الموفدين رفيعي المستوى من الولايات المتحدة والاتحادين الأوروبي والروسي إلى مدنهم المنكوبة بالفقر وآثار الحرب والدمار ، واخذت «سفاراتهم» تفتح أبوابها في عواصم كبرى، رافعة علم الإقليم من دون علم الوطن الأم... ظنوا في لحظة انتشاء، أن «الدولة» باتت قاب قوسين أو أدنى، وأن «الفيدرالية» على مرمى حجر أو أقل قليلاً، وأن تاريخ هذه المنطقة، سيبتسم لهم أخيراً، وسيصحح بعضاً من أخطائه القديمة الجديدة.

رموا بكل ثقلهم خلف واشنطن، وكيف لهم ألا يفعلوا ذلك، وما الذي بحوزتهم خلاف ذلك ... وضعوا البيض كله في سلة الجنرالات والموفدين الكثر ... قاتلوا ببسالة منقطعة النظير، وألحقوا بـ «داعش» أولى خسائره وهزائمه ... والأهم من كل هذا وذاك، أنهم نجحوا حيث أخفق الآخرون في المعارضات السورية، في تقديم خطاب مدني، يسعى في علمانية الدولة ومدنيتها وديمقراطيتها، ويساوي بين الرجال والنساء، ويعتمد صناديق الاقتراع وسيلة للمشاركة الشعبية وغير ذلك مما عزّ أن تجده أو تعثر عليه، في خطاب وممارسة معارضات كانت تتجه بثبات صوب التطرف و»التسلف» وشتى «الأصوليات» النابذة والإقصائية والتكفيرية و»القروسطية».

ظنوا أن تركيا في وضع ضعيف، وأن ارتفاع منسوب الخلاف التركي الأمريكي، سيجعل منهم «بيضة القبّان» في السياسات والرهانات الأمريكية في الإقليم ... اعتقدوا أن صمت واشنطن على معادلة أردوغان: إما تركيا وإما الحزب الديمقراطي الكردستاني، هو بمثابة انتصار لهم، وأن واشنطن اختارتهم على الدولة الإقليمية الكبرى، العضو الرئيس في «الناتو» ... استمرأوا اللعبة، وكسروا أول خط أحمر تركي أحمر بعبور الفرات شرقاً، ودخلوا منبج بعد معارك طاحنة مع التنظيم الإرهابي، ولم يخفوا نواياهم بالصعود إلى الباب وجرابلس وإحداث الربط الجغرافي بين كانتونيكوبانيوعفرين.

أخذتهم العزة بالإثم، وظنوا أنهم إذ امتلكوا الدعم الأمريكي، امتلكوا الدنيا بأسرها ... ذهبوا بعيداً  في الاستخفاف بالنوايا والمصالح والأهداف التركية ... ضربوا عرض الحائط بعلاقاتهم مع النظام في دمشق، وقرروا من جانب واحد، فرض سيطرة مطلقة ومتفردة على مدينة الحسكة، وتقدموا بلائحة شروط لوقف النار، هي بمثابة «صك إذعان» ما كان لدمشق أن تقبل به، حتى وإن أبيدت حاميتها في المدينة ... لم يتركوا لأنفسهم «صاحب»، فلا هم مع النظام بخير ولا هم مع المعارضة بخير ... فيما طهران وأنقرة، «الصديقتان اللدودتان» تتربصان بهم، وتنتظران بفارغ الصبر، لحظة استلال السكاكين للإجهاز على الذبيحة ... ومن خلفهما، اصطفت طوابير الفصائل والجماعات والكتائب والأولوية المسلحة الجاهزة للانقضاض على الفريسة.

وفي ذروة التحليق على ارتفاعات شاهقة، جاءتهم الضربة من حيث لا يحتسبون ... واشنطن تندفع لاستدراك أنقرة قبل أن تذهب بعيداً على طريق موسكو – طهران ... جو بايدن يأتي مبرراً ومعتذراً بأسلوب فج، بلغ حدث السذاجة ... ومن أنقرة بالذات، يطلق التحذيرات لحلفائه الكرد الأقربين: عليكم العودة شرق الفرات وإلا ستخسرون دعمنا ... ليس هذا فحسب، فالرجل الثاني في الإدارة الأمريكية، يتعهد بتوفير الغطاء الجوي للقوات التركية البرية التي دخلت جرابلس لـ «دفن» الحلم الكردي بتقرير المصير أو «الفيدرالية» أو ربما «الاستقلال الناجز» ... الطائرات الحربية الأمريكية التي ظلت تقدم وحدات الحماية بالأمس، هي ذاتها التي تغطي الدبابات التركية وهي تدوس على الحلم الكردي اليوم.

الصفعة موجعة، والخيبة شديدة ... وخلف دخان المعارك في جرابلس، تلوح في الأفق جنازة مشروع «الفيدرالية» الكردية، ولم يبق للقيادة الكردية سوى أن تتوقف للحظة مع نفسها، وتعيد النظر في الحسابات والتوقعات والرهانات والتحالفات والأولويات ... المهمة عاجلة ولا تحتمل التأجيل.

ما زالت لدى أكراد سوريا بعض أوراق القوة الهامة، فواشنطن لن تتخلى كلياً عن أهم حليف سوري لها، لكن على هذا الحليف، أن يتواضع في مطالبه ... «لا مركزية» ربما، أما فيدرالية وإقليم وتقرير مصير فلا ... هذه هي المعادلة الجديدة التي سيجري التفاوض بشأنها،فانبثاق الكيانية الكردية السورية، لا يمس وحدة سوريا فحسب، بل ويطال وحدة تركيا في المقام الأول ... هذا ما يقلق أنقرة، مدعومة من جو بايدن، وليس «وحدة سوريا وسيادتها».

العلاقة مع دمشق لم تبلغ نقطة «اللاعودة» بعد، والوسيط الروسي كفيل بتذليل العقبات وإعادة بناء جدار الثقة الذي سقط في الحسكة ... والأهم من كل هذا وذاك، إعادة ترميم ما انهدم وتهتك من وشائج مع مختلف المكونات السورية في مناطق انتشار وسيطرة الحركة الكردية، وفي المقدمة منها العرب والمعارضة الديمقراطية، فلا حل كردياً لمشكلة أكراد سوريا، بل حلاً وطنياً ديمقراطياً، ولا حل عسكرياً لمشكلة أكرادها، بل حلاً سياسياً تفاوضياً توافقياً بامتياز ... والأهم، فإن ما يؤخذ في لحظة ضعف الدولة وبقية مكوناتها، من جانب واحد، وبأسلوب الاقتناص، لن يستمر طويلاً ... وها هو يتلاشى بأسرع مما تصور أكثر المراقبين تفاؤلاً بمستقبل المشروع الكردي.

ولقد آن أوان الخروج من هذه الحلقة الشريرة المغلقة ... أكراد سوريا،ضحايا التجاهل والتهميش والتعريب، لن يكون بمقدورهم ممارسة التهميش و»التكريد» للمكونات الأخرى، تماماً مثلما يفعل كرد العراق في بعض المناطق المتنازع عليها أو المستولى عليها أو «المطموع بها» ... لعبة الإقصاء المتبادل بين شعوب هذه المنطقة وأممها، مكلفة للغاية وغير مضمونة العواقب، وآن الأوان للخروج على قواعدها المدمرة.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الخديعة الكبرى» «الخديعة الكبرى»



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon