عريب الرنتاوي
أمران لافتان في الكلمة الصوتية الأخيرة لـ “خليفة المسلمين” أبو بكر البغدادي: الأول؛ تركيزه على قيمة “الشهادة” كطريق مختصر لبلوغ الجنّة بعد أن أكثر في محطات سابقة من الحديث عن “النصر” المتعذر على أية حال، لكأننا أمام تبدل في أمر “الحُسنيين”، وتفضيل لنصر الآخرة على النصر في الدنيا... والثاني؛ تركيزه على تمدد “الدولة” أكثر من بقائها، لكأننا بإزاء تعديل جوهري على الشعار الذي صاحب نشوء “الدولة”: باقية وتتمدد، ليصبح تتمدد فقط، وفي هذا السياق، لم يغفل الرجل عن تعداد قائمة الدول التي نجح “داعش” في التمدد إليها والحصول على “موطئ قدم” فيها.
برغم الرطانة الاستشهادية الواثقة التي ميزت حديث الرجل، ومحاولات توسيع دائرة حروبه ومعاركه، لتشمل الأقصى وبيت المقدس وفلسطين، إلا أن من يدقق في ثنايا الكلمة الصوتية، يدرك أتم الإدراك، أن “القوم” في مأزق، وأنهم يستشعرون ما ينتظرهم من هزائم متلاحقة، وعلى “ضفتي” دولتهم الإسلاموية: سوريا والعراق... بل وينتابه شعور بأن الرجل تعامل مع كلمته الصوتية كما لو كانت “خطبة الوداع”، وربما قبل أن يؤخذً بما لا تحمد عقباه.
في العراق، وقبل استعادة الجيش وحلفائه مدينة الرمادي، كشفت قيادة الأركان عن تقلص مساحة “داعش” من 40 بالمائة من مساحة العراق الإجمالية، إلى أقل من 17 بالمائة فقط، والنسبة في تناقص بعد أن انتقل الجيش العراقي من الدفاع إلى الهجوم واستعادة زمام المبادرة، وفي ظني أن الأسابيع والأشهر القليلة القادمة، ستحمل المزيد من الأنباء غير السارة لـ”الخلفية” وأعوانه.
وفي سوريا، لا تبدو الصورة مغايرة على الإطلاق ... فقوات الحماية الكردية و”سوريا الديمقراطية” تتقدم في شمال شرق البلاد، وتنتزع أكثر من 13 بالمائة من مساحة سوريا من أيدي التنظيم أو تمنعه من التقدم نحوها .... وآخر المكتسبات الميدانية على هذا الصعيد، تحرير سد تشرين الاستراتيجي ... ويكفي أن “الخليفة” أذن لأكثر من ثلاثة آلاف مقاتل “داعشي” في جنوب دمشق للرحيل عنها في صفقة هي الأولى من نوعها، حتى نعرف حجم المأزق الذي آل إليه التنظيم، بعد عامٍ أو يزيد من الاكتساحات المتعاقبة، وعلى الساحتين السورية والعراقية.
إزاء وضع كهذا، ليس لدى “الخليفة” ما يعد به رعيته ومبايعيه، سوى الثبات في المعارك و”هزم الأحزاب وحده”، والتبشير بالجنّة وتزكية “الشهادة” وتزيينها .... ليس أمامه ما يكفي لإقناع هؤلاء بالثبات، سوى التبشير بتمدد “دولتهم” إلى سيناء واليمن ونيجيريا وليبيا، أما لسان حاله فيقول: إن خسرنا سوريا او العراق، أو كلتيهما، فلا بأس، فما زالت لدينا ملاجئ وملاذات آخرى، ننطلق منها في ترميم “الخلافة” ومد سلطانها.
لقد بلغ “داعش” ذروة غير مسبوقة في تاريخ الحركات من هذا النوع، وبسرعة قياسية غير مسبوقة بدورها ... وفي ظني أنه لولاء تواطؤ لاعبين إقليميين ودوليين في تدعيم التنظيم وتيسير تحركاته وتنقلاته، والاتجار معه بالنفط والآثار والأعضاء البشرية، وتأمين الشرايين الكفيلة بإدامة دفق السلاح والرجال والعتاد والمال، لما أمكن له أن يقفز من “مجرد” تنظيم في أحسن الأحوال، إلى دولة مترامية الأطراف، تتوفر على مقومات وموارد دولة من الحجم المتوسط.
لكن انتقال عدوى “التهديد الإرهابي” وتفاقم “أزمة اللجوء السوري والعراقي”، جعل العالم يستيقظ على خطر التنظيم، ويتنبه للحاجة الملحة لاستئصاله والقضاء عليه ... وبرغم محدودية الإجراءات التي اتخذت حتى الآن، لتجفيف منابعه ومصادره، إلا إنها كانت كافية للتبشير بقرب نهايته، وكان لها أثراً فورياً في ميادين القتال وساحاته.
إن انهيار مؤسسات التنظيم وانحسار سيطرته عن المدن والبلدات السورية والعراقية، لا يعني بحال من الأحوال، طي صفحته تماماً، بقدر ما يعني حرمانه من “الملاذ الآمن” الذي يمكنه من التفكير والتخطيط والتقرير بشأن عملياته الإرهابية في قادمات الأيام، وبقدر ما تعني أن الحرب على هذا التنظيم، لن تتخذ بعد ذلك طابعاً عسكرياً بقدر ما ستتخذ طابعاً أمنياً، يتصل بملاحقة الخلايا اليقظة والنائمة، ومطاردة الذئاب المستوحدة والمستوحشة ... فما زرعه “داعش” وأخواته خلال السنوات الفاتئة، يصعب اقتلاعه، بمجرد الإعلان عن تحرير المدن والقرى والبلدات الخاضعة لقبضته الحديدية، وعلى المجتمع الدولي، أن يتحضر لحرب جديدة، بأدوات جديدة، في مرحلة “ما بعد داعش”.
وأحسب أن مصيراً مماثلاً يواجه “جبهة النصرة” وبعض الفصائل “الجهادية” الأخرى، التي يتوفر إجماع دولي على تصنيفها بـ”الإرهابية”، علماً بأن سقوط “داعش” وانكفائه، سيسرع في توفير الموارد الكفيلة بضرب وتدمير الفصائل الأقل قوة وسطوة، وربما تؤسس حادثة اغتيال زهران علوش وصحبه، أولى معالم الطريق الذي ستسلكه هذه الحركات، وتبشر بالمصائر التي ستنتهي إليها.