السودان  من «صلابة»الإيديولوجية إلى «سيولة»البراغماتية

السودان ... من «صلابة»الإيديولوجية إلى «سيولة»البراغماتية

السودان ... من «صلابة»الإيديولوجية إلى «سيولة»البراغماتية

 لبنان اليوم -

السودان  من «صلابة»الإيديولوجية إلى «سيولة»البراغماتية

عريب الرنتاوي

أن ينتقل السودان من خندق إيران / حماس و”الممانعة” إلى خندق “التحالف السني” في الحربين على اليمن والإرهاب، فهذا أمرٌ مفهوم في سياق الانقسام المذهبي الذي يشطر الإقليم إلى معسكرين متحاربين، مع أن النقلة كانت كبيرة جداً، وألقت بظلال كبيرة من الشك، حول “المرجعيات الدينية المُؤَسِسَةِ” للنظام الحاكم في السودان منذ عام 1989.
لكن أن تصل “البراغماتية” بالسودان، إلى حد الحديث عن “تطبيع العلاقات مع إسرائيل”، وأن يصبح الموضوع مادة للحوار والنقاش داخل الأطر الرسمية وفي هيئات الحوار الوطني، وأن تتتالى التصريحات الرسمية وغير الرسمية، “المرحبة” بخطوة من هذا النوع، وأن تُستَقبل رئيسة لجنة الصداقة السودانية – الإسرائيلية تراجي مصطفى على المستوى الرئاسي، وهي التي اتهمت بالخيانة والعمالة وسحبت منها جنسيتها السودانية... فهذه نقلة كبيرة، أقرب للتدهور، تبدو عصية على الفهم والهضم.
ذات نهار في الخرطوم، وعندما كان الدكتور حسن الترابي في موقع الرجل الثاني، وهناك من قال “الرجل الأول” في النظام، سألته في مكتبه عن “مشروعه” للسودان، أفاض الرجل كعادته، في شرح معنى “الرسالة” التي يسعى في تعبئة السودانيين حولها ومن خلفها، وهي رسالة تنهض على “المشروع الإسلامي”، الذي يقع في القلب منه، دعم قضايا الأمة واستعادة نهضتها، وتحرير أوطانها، منوهاً إلى دور السودان في احتضان مقاومة الشعب الفلسطيني وكفاحه من أجل حريته واستقلاله ... يومها، خرجت عن سياق الجلسة والحديث المتدفق من “الشيخ”، متسائلاً عمّا إذا كان من الأجدى إعادة تعريف هذه “الرسالة” لتشمل تعبيد الطرق وبناء المستشفيات والمدارس، ومعالجة مشكلات الفقر والبطالة ... ليردّ رجل السودان القوي بالقول: إن السوداني بحاجة لـ “قضية” أو “رسالة” لكي تستنهض طاقاته، وهذا ما يفعله للسودانيين ما عرف بـ “نظام الرأسين” آنذاك.
ومنذ ذلك التاريخ، دشّن السودان علاقات وطيدة مع إيران واحتفظ بها وسهر على تطويرها، وفتح أبواب الخرطوم لمختلف الفصائل الفلسطينية، وأنشأ علاقات خاصة مع حركة حماس، وتولى تزويدها بالسلاح والعتاد الذي تنتجه مصانع سودانية، أقيمت بدعم “سخي” من إيران، وتعرض السودان لعدة ضربات جوية إسرائيلية، ودخل هذا الملف، في حسابات القوى العظمى، التي عمل بعضها على فرض حصار خانق على البلاد والعباد، وصولاً لتشجيع جنوبه وأهله، على الانفصال في دولة الجنوب.
وبالطبع، لم تكن العلاقات السودانية مع إيران وحلفائها، لتروق للمملكة العربية السعودية، التي دخلت في السنوات الأخيرة، وبالأخص في العام المنصرم، في علاقة عدائية وصراعية مباشرة مع جارتها اللدودة ... أعيدت طائرة البشير إلى نقطة انطلاقها ولم يسمح لها بمواصلة السير نحو هدفها: طهران، ودخلت العلاقات بين البلدين في ازمة معروفة.
إلى أن اكتشفت الخرطوم – فجأة – أن المركز الثقافي الإيراني فيها يعمل على نشر “التشيّع” في أوساط السودانيين السنة (وهذا أمر غير مستبعد على أية حال)، حيث وجد دعاة “ولاية الفقيه” في البيئة الصوفية للمجتمع السوداني، مدخلاً رحبا لنشر أفكارهم واعتقاداتهم، فكان أن أُغلق المركز، وبطريقة استعراضية، لا تليق بطبيعة العلاقات المتطورة بين إيران والسودان، لكأن الخرطوم كانت قد قررت على ما يبدو، إحداث الاستدارة في سياستها الخارجية، ونقل بندقيتها من كتف إلى كتف.
لتأتي بعد ذلك الحرب السعودية في اليمن وعليه، فتهب الخرطوم لإعلان تضامنها الكامل مع الرياض في حربها على “المتمردين الحوثيين”، ولتتبع القول بالفعل، وترسل بألوف الجنود إلى اليمن للقتال إلى جانب السعودية، وهو أمرُ لم تفعله بعض دول مجلس التعاون الخليجي، ولم تفعله أية دولة حليفة أو صديقة للسعودية من خارج المجلس، بمن في ذلك مصر والأردن والباكستان وغيرها.
ويتوالى التأزم والتأزيم في العلاقات بين الرياض وطهران، ويتعمق على نحو متوازٍ ومتزامن، انحياز الخرطوم للرياض، فتدخل الحلف الإسلامي لمحاربة الإرهاب، وتبادر إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، انتصاراً للسعودية، وهي خطوات لم تقدم عليها سوى البحرين، في حين اكتفت دول أخرى بالإدانة والتنديد وسحب السفير للتشاور أو تخفيض مستوى التمثيل ... لقد أصبح واضحاً أن الخرطوم بصدد حرق سفنها مع إيران نهائياً، وأنها قد ألقت بكل ثقلها خلف المملكة، التي يبدو أنها لم تبخل على السودان والسودانيين، بالدعم المالي والاقتصادي والاستثماري، الذي يحتاج إليه ويستحقه على أية حال.
لكن أن تستمر متوالية “البراغماتية” وسيولتها، من دون محددات أو ضوابط، وأن تصبح نهايات طريق التباعد مع إيران، بمثابة بدايات لطريق التقارب مع إسرائيل والتطبيع معها، وفي هذا التوقيت بالذات، الذي يشتد فيه حصار غزة، وتندلع فيه انتفاضة السكاكين والحجارة، وتتآكل معه فرص حل الدولتين، فهذا أمرٌ لم تجرؤ عليه، عواصم ودول عربية، اشتهرت تاريخياً بـ “براغماتيتها”، ولطالما هرولت باتجاه الانفتاح على إسرائيل والتطبيع معها... يبدو أن السودانيين أدركوا بعد خراب جوبا ودارفور، أن الطريق إلى واشنطن يمر بتل أبيب، ويبدو أن الكفة تتجه لصالح سلوك هذا الطريق.
ولا شك أن هذه “الخفة” في التنقل بين الخنادق والمعسكرات، سوف تثير لا الكثير من الأسئلة والتساؤلات فحسب، بل وقد تتسبب بكثير من التحديات والمشكلات للنظام القائم، الذي بنى لنفسه شرعية إيديولوجية دينية “رسالية”، أسهمت في تسريع انشقاق الجنوب، وخلقت أجيالاً متعاقبة من المعبأين بأفكار “الأمة الإسلامية” و”جهاد الكفاية والعين” ... لكأنه كتب على السودان أن يدفع ثمن “التطرف” مرتين، الأولى، حين كان التطرف إسلامياً، بانشقاق الجنوب وانتقال الحركات العلمانية والوطنية إلى خنادق المعارضة، والثاني حين يصبح التطرف “تطبيعياً”، حيث لا يستبعد أن تتبدل الخنادق والمعسكرات، وينقلب من كان مؤيداً لـ”رسالة الإنقاذ” إلى معارض شديد لها، وفي مطلق الأحوال، فإن المجتمع السوداني، سيجد نفسه من جديد، أمام انقسام إضافي يتراكم فوق سلسلة انقساماته العميقة المتعددة... كان الله في عون السودان والسودانيين.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السودان  من «صلابة»الإيديولوجية إلى «سيولة»البراغماتية السودان  من «صلابة»الإيديولوجية إلى «سيولة»البراغماتية



GMT 17:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا تفعلون في هذي الديار؟

GMT 16:02 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 16:00 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 15:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الفاتيكان... ومرثية غزة الجريحة

GMT 15:52 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لحوم العلماء ومواعظهم!

GMT 15:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

وجع فى رأس إسرائيل

GMT 15:47 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حكم «الجنائية» وتوابعه

GMT 15:44 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

«الثروة» المنسية ؟!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon