بقلم : عريب الرنتاوي
يبعث توقيت إغلاق مقرات جماعة الإخوان برسائل خاطئة في أكثر من اتجاه ... فالأردن في قلب حرب وصفها بـ “الكونية” ضد الإرهاب، والتمييز بين من هو إرهابي ومن هو غير إرهابي، هو أحد شروط وضمانات الانتصار في هذه الحرب ... ولا احسب أن أحداً في الأردن، بمن في ذلك، أكثر المتشددين حماسة لاستئصال الإخوان، جرؤ على القول، بأنها جماعة إرهابية، أقله علناً وعلى الملأ ... في هذا السياق، قد يُقال، أن الجماعة لم تفعل الكثير للتصدي لظاهرة الإرهاب، وأنها تتحمل نسبياً المسؤولية عن تفشي ظاهرة التطرف في بلدنا، وقد يوصف موقفها من الإرهاب بـ “الرمادي” الذي يتعين على الجماعة “تظهيره” من دون مراوغة أو تلعثم، وهذا أمر فيه قول، بيد أنه لا يصل إلى حد “شيطنة” الجماعة، أو الدعوة لتكفينها بـ “الشمع الأحمر”.
تجربة الجماعة برهنت، أن بمقدورها موضوعياً، أن تلعب دوراً في كبح جماح الظاهرة الإرهابية، والحد من انزلاق فئات شبابية في أتونها الدموي والتدميري، فهي بخلاف مدارس السلفية الجهادية عموماً، حركة مدنية، تنتمي غالباً إلى الطبقة الوسطى وتسعى لممارسة الحكم أو المشاركة فيه، وقد فعلت ذلك بأشكال شتى ومراحل مختلفة، وهذا بحد ذاته، يؤهلها لأن تكون جزءاً من العملية السياسية ... وقد أخذت عليها الحركات الإسلامية الأكثر تشدداً، أنها تراهن على حصان خاسر، وأنها تلعب بورقة “الديمقراطية الكافرة”، وأنها تخدم أنظمة “الطاغوت” إذ تقول بجواز المشاركة السياسية ... التضييق على الجماعة، وسد آفاق مشاركتها، يعطي خطاب “التكفيريين” مبررات إضافية، ويضعف ميل الإسلاميين الأكثر اعتدالاً للمشاركة، بل ويدفع بقواعد واسعة من مؤيدي هذه الحركات، للكفر بجدوى المشاركة السياسية، والبحث عن قنوات وبدائل غير مرغوبة، بحسابات الأمن الوطني والسلم الاجتماعي.
لقد كنّا نرى، وما زلنا، أن الاشتباك الإيجابي مع الجماعة هو الخيار الأنسب ... تحدي خطاب الجماعة السياسي والفكري في مفاصله الأساسية، هي المقاربة الأكثر جدوى، إن كان الهدف إدماج الجماعة في العملية السياسية، وتطوير هذه العملية بالأصل، ومأسستها على قواعد التعددية السياسية والفكرية، والتناوب على السلطة في إطار حكومات برلمانية، وبرلمانات قائمة على التعددية الحزبية، كما هي الحال في سائر الديمقراطيات، القارّة منها والناشئة.
لكن أي من الحكومات المتعاقبة، لم تفعل شيئاً من هذا، لا مع الإخوان ولا مع غيرهم بالمناسبة ... فغالبية هذه الحكومات، جاءت من “طينة غير سياسية”، وفاقد الشيء لا يعطيه .
.. وهذا ما أدى بالنتيجة إلى غلبة المقاربة الأمنية – البيروقراطية، للتعامل مع الإخوان وغيرهم من تيارات العمل السياسي والفكري في البلاد ... وكانت “الصفقات” التي تسبق الانتخابات في العادة، هي الحّكّم والفيصل في علاقة الحكم بالجماعة، في حين كان المطلوب، “مأسسة” الحوار الوطني، بأبعاده ومضامينه العميقة، وصولاً لتوافق وطني عريض، حول قواعد اللعبة السياسية، والمبادئ “الفوق دستورية” التي يتعين الاحتكام إليها، ووضع كل ذلك، في إطار “ميثاق وطني جديد” مكمل للدستور، وشارح له ومعدل عليه، بعد أن استنفد الميثاق الوطني القديم، وظيفته التاريخية الوحيدة، في الجسر بين مرحلة الأحكام العرفية وحقبة استئناف الحياة الحزبية والبرلمانية، وإنجاز المصالحة التاريخية بين النظام السياسي والمعارضة في البلاد.
وفي إطار التوقيت أيضاً، فإن قرارات الإغلاق و”التشميع” لا تبعث برسائل إيجابية، والأردن يقف على عتبة استحقاق انتخابي، في ظل قانون جديد للانتخاب، له ما له وعليه ما عليه ... والمؤسف أن هذه القرارات، تأتي فيما نشطاء وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني، يشكون حالة التضييق على الحريات والتراجع عن مكتسبات السنوات الفائتة، ومراوحة مسار الإصلاح السياسي وفق أكثر التوصيفات دبلوماسيةً وتفاؤلاً ... الأمر الذي يلقي بمناخات ثقيلة، على الاستحقاق.
وإذا كان مطلوباً من الدولة بأجهزتها الحكومية المختلفة، أن تعتمد سياسة “الاحتواء” و”الإدماج” بديلاً عن الإقصاء والاستثناء، فإن المطلوب من الجماعة بدورها، أن تخرج من “حالة الإنكار” التي تعيشها، وأن تتصرف بوحي من كونها لم تعد، الزوجة المفضلة للحكم، فلا الحرد يمكن أن يعطي أي نتيجة، ولا الرهان على “الأيام الخوالي” قد يفضي إلى أي مطرح ... لقد جرت مياه كثيرة في نهر العلاقات بين الجانبين، وعلى الجماعة من منظور مصلحتها الخاصة، والمصلحة الوطنية الأعم والأشمل، أن تتوقف بدقة أمام خطابها وسياساتها، وأن تراجع تجربة السنوات الخمس الفائتة، لا أردنياً فحسب، بل وعربياً كذلك، وأن تتلفت حولها فترى الدروس المستقاة من تجارب ناجحة لإسلاميين (تونس والمغرب) وفاشلة فشلاً ذريعاً لآخرين (مصر)، وان تمعن التفكير في قصة صعود وهبوط الإسلام السياسي التركي.
فمن دون تأصيل قيم الحرية والتعددية والديمقراطية، وتجذير ثقافة حقوق الانسان، وفصل الدعوي عن السياسي، ستظل الجماعة على الدوام، في قلب دائرة الشكوك والاتهامات ... ليس لأن الآخرين من التيارات الأخرى، أكثر ديمقراطية من الإسلاميين، بل لأن الإسلاميين أكثر من غيرهم، ما زالوا لاعباً جماهيرياً حاسماً، وربما اللاعب الجماهيري الأكبر ... ليس لأن بعض أهل الحكم يريد لقطار الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي الانطلاق بسرعة، ولا تعترضه سوى مواقف الجماعة المتشددة والمساحات الرمادية في خطابها، بل لأن جماهيرية الجماعة، هي أكثر ما يثير القلق لدى بعض دوائر الحكم والحكومات، حتى أن هذه الدوائر تتمنى لو تظل الجماعة على تشددها، فتوفر أفضل ذريعة لتعطيل مسارات الإصلاح والتحول، فاعتدال الحركة وليس تشددها، هو يقلق قوى الشد العكسي، لأنها ساعتئذ، ستنجح في تقديم نفسها كشريك منافس في العملية السياسية، بد أن تنتبذ مكاناً قصياً في يمين الخريطة السياسية والحزبية في البلاد.
ونتمنى للحوار حول أزمة الجماعة، وأزمة علاقاتها بالحكم والحكومات، أن يأخذ طابعاً جدياً موضوعياً، محكوماً بهدف دفع مسار الإصلاح والعملية السياسية في بلادنا، لا أن يتحول إلى مناكفات ومماحكات، ولحظةً يسعى البعض إلى اقتناصها لتقديم “أوراق اعتماد” لهذه الجهة أو تلك ... مثل هذه المقاربة الانتهازية، قد تخدم أصحابها بعض الوقت، بيد أنها لن تخدمهم كل الوقت، والمؤكد أنها ستلحق الضرر بالمصلحة العامة، على طول الخط.