عريب الرنتاوي
مراسم الاحتفال بالتوقيع على الاتفاق النووي بين طهران والمجتمع، تكاد تكون أنجزت، بالذات في كل من واشنطن وطهران ... وزير الخارجية الأمريكية حرص على أن يتم الإعلان عن الاتفاق مساء أمس الاثنين، ليتاح لرئيسه والبيت الأبيض والأمريكيين، متابعة الحدث المنتظر بشغف من قبل الإدارة الأمريكية ... في طهران، استكملت الأجهزة الأمنية، إجراءاتها التنظيمية لمواكبة الاحتفالات التي ستشهدها العاصمة الإيرانية بالحدث المنتظر، وبشغف أيضاً في طهران ... أما الصورة من العواصم الأخرى، فتبدو متفاوتة لجهة التعامل مع “نقطة التحوّل” هذه ... لا شك أن تل أبيب والرياض، ليستا سعيدتين بالأخبار الآتية في أعقاب “ليالي الأنس في فيينا”التي طالت بأكثر مما ينبغي.
الآن وقد بات الاتفاق في حكم المنجز (نكتب قبل الإعلان رسمياً عن الاتفاق)، فإن الأنظار تتجه لما بعده ... وثمة فيض من الأسئلة والتساؤلات حول مرحلة ما بعد الاتفاق، يتقدمها من حيث الأهمية والإلحاحية، سؤالان رئيسان:
الأول، كيف سينعكس إبرام الاتفاق على سلوك إيران وسياساتها الخارجية؟ ... والثاني، وهو مرتبط بالأول، ومتوقف عليه، كيف سينعكس الاتفاق على الأزمات المفتوحة في الإقليم، بدءاً من لبنان وانتهاء باليمن، مروراً بسوريا والعراق والحرب على الإرهاب.
في الإجابة على السؤال الأول، نرجح أن طهران ستسعى في تقديم نفسها ورسم أدوارها، بوصفها جزءاً وشريكاً في الحلول السياسية لأزمات المنطقة، لا بوصفها فريقاً و”صانع مشاكل” وجزءاً من المشاكل أو سبباً فيها ... الاتفاق يبقي إيران تحت دائرة الضوء والرقابة، وإيران معنية باستثمار الاتفاق لتعظيم مكاسبها، ومقابل كل تنازل قدمته لجعل الاتفاق ممكناً، ستسعى طهران لتحقيق مكاسب وعوائد كثيرة، إن على صعيد أوضاعها الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية بخاصة، أو على مستوى دورها الإقليمي في المنطقة.
إن أنجز الاتفاق، وإن أجيز من قبل مجلس الشورى الإيراني في الأسابيع القريبة القادمة، فإن التيار الإصلاحي المعتدل، سيكون قد سجل “نقطة تاريخية” لصالحه، متغلباً على تيار التشدد و”تصدير الثورة، وسيتمكن رموز هذا التيار، من كسب جبهة واسعة من المؤيدين والأنصار ... معنى ذلك، إن إيران، وربما حتى إشعار، ستحكم بالمعتدلين والإصلاحيين ... ولهؤلاء قراءات أكثر اعتدالاً حيال ملفات المنطقة والدور الإيراني في كل منها ... وغلبتهم على المسرح الداخلي الإيراني، تملي على الدول العربية، خصوصاً “المشتبكة” منها في صراع مع إيران، أن “تقف وتفكر”، وأن تعيد النظر في استراتيجية تعاملها مع إيران، في مسعى لطي صفحة وفتح أخرى، فالجغرافيا والتاريخ، سيفرضان إيران، وإلى الأبد، كجارة كبرى للأمة العربية، ومن الأفضل إدارة الخلاف والاختلاف معها، بوسائل الحوار والدبلوماسية، ومن على قاعد حسن الجوار وتعظيم المصالح المشتركة، وبناء منظومات للأمن والتعاون الإقليمي الأوسع نطاقاً.
الاتفاق، وخصوصاً بعد التقدم على طريق رفع العقوبات، سيطلق ديناميكيات جديدة في المجتمع الإيراني، ولأول مرة منذ انتصار الثورة الإسلامية في العام 1979، ستتحرر البلاد من “هاجس” العدو الخارجي المتربص، وستواجه إيران أسئلة الإصلاح والتحوّل الديمقراطي ومنظومة حقوق الانسان، الأفراد والجماعات، وهذه ديناميكيات، لا يمكن التنبؤ مسبقاً، بكيف ستتطور أو كيف سيتعامل النظام معها، وما الأثر الذي ستتركه على نظام “ولاية الفقيه”.
أما بالنسبة للسؤال الثاني، فإن جوابه مؤسس على الوجهة التي ستسلكها إيران بعد الاتفاق، والتي نتوقع أن تتميز بالجنوح للتسويات والاعتدال والحلول الوسط ... ومن المتوقع أن تكون لذلك انعكاساته الإيجابية، فورية أو على المدى المتوسط، على معظم أزمات المنطقة ... لبنان قد ينتخب رئيساً قبل نهاية العام ... اليمن قد ينتقل من “تهدئة مغدورة” إلى بداية عملية سياسية تفضي إلى إنهاء الحرب القذرة ووضع الجميع على سكة المساومات والمصالحات ... والمؤكد أن تعاوناً أمريكياً – إيرانياً، سيكون في متناول الأيدي بخصوص العراق ... أما سوريا، فإن بازار المبادرات والمقترحات والموفدين، سيفتتح على نحو غير مسبوق.
وليس مستبعداً أن تشهد علاقات طهران مع بعض الدول العربية، تطوراً ملحوظاً، بعد أن تسقط محاذير وتحفظات المجتمع الدولي، وبعد أن يُرفع سيف “الفيتو” المشهر في وجه أية دولة تريد إقامة علاقات طبيعية مع إيران، وفي هذا السياق، قد تدخل علاقات إيران مع كل من الأردن والسلطة الفلسطينية ومصر وغيرها، بمرحلة جديدة.
ما كان مستحيلاً قبل الاتفاق، قد لا يظل كذلك بعده ... لكن تعقيدات المنطقة واحتدام حدة صراعاتها، لا تدفع المراقب على إبداء قدر كبير من التفاؤل، بل وتملي بعض التحوط والحذر في إطلاق التكهنات المتفائلة، فقد يمضي زمنٌ، يطول أو يقصر، قبل أن تتم بعض الأطراف استدارتها، وقبل أن ترسو خرائط التحالفات على شكلها الجديد، وخلال هذه الفترة، ستراق دماء كثيرة في ساحات المواجهة وميادينها، وستتراكم الأنقاض والخرائب التي تخلفها “حروب الأخوة الأعداء”.