عريب الرنتاوي
لا مصلحة لإسرائيل، واستتباعاً للولايات المتحدة، بانهيار السلطة الفلسطينية وتفككها، لا حباً بها ولا ولهاً برئيسها، بل خشية من انتقال الفوضى التي تعم الإقليم إلى “المناطق المُدارة”، تحت إبط إسرائيل وفي كنفها.
قد يقول قائل: إن صعود اليمين القومي والديني في المجتمع الإسرائيلي، يُبطل مفعول هذه النظرية، ويجعل منها “نظرية متقادمة”، هذا محتمل... وليس من السياسة في شيء، اسقاط سيناريو إقدام إسرائيل على “تفكيك” السلطة، وعدم انتظار “حلها” على أيدي الفلسطينيين أنفسهم، ولكن دعونا نتأمل في مختلف الاحتمالات والسيناريوهات.
ليس للفلسطينيين مصلحة في حل السلطة من جانب واحد، سيما وأنها (السلطة) مقسومة على اثنين: سلطة في الضفة بقيادة فتح وزعامة عباس، وأخرى في غزة، بقيادة حماس وزعامة قياداتها الكثر الموزعين على العواصم والأجنحة والتيارات ... حل السلطة في الضفة، لا يستتبع أبداً، وبالضرورة، حلها في قطاع غزة، ما يعني أن قراراً من هذا النوع، سيجرد فتح من عناصر قوتها ونفوذها على شطر من الأراضي المحتلة ويبقي لحماس عناصر نفوذها وسطوتها على الشطر الآخر.
حل السلطة في الضفة وإبقائها في رام الله، ستبرره حماس (وربما آخرون) بالقول إن القطاع بات “محرراً” وإن كان يرزح تحت نير الاحتلال، وسبق لحماس وآخرون، أن نظروا لقرار شارون الانسحاب من القطاع، بوصفه “عملية تحرير” وليس إجراءً أحادي الجانب، مثل هذا الجدل البيزنطي سيستأنف من جديد، ومن دون أية نتيجة تذكر.
في المقابل، ستجادل فتح وآخرون، بأن ثمرة حل السلطة في الضفة، ستكون إقامة كيان منفصل (إمارة، دويلة) في غزة، تكون بمثابة المقبرة لحلم الفلسطينيين في العودة والدولة وتقرير المصير، تجسيداً لمشروع إسرائيلي يريد اختصار الدولة بالقطاع، مشفوعة بحكم ذاتي للسكان الفلسطينيين على ما تبقى من مناطق الضفة الغربية غير الجديرة بالضم والتهويد والاستيطان، ما يضفي تعقيداً إضافياً على أي قرار فلسطيني بشأن مستقبل السلطة الوطنية.
قرار حل السلطة سيرسم علامة سؤال كبيرة حول مستقبل القيادة الفلسطينية، فقد انتهى زمن “هجرة القيادة خارج الوطن”، ولا أحسب أن دولة عربية واحدة، يمكن أن ترحب أو هي على استعداد لاستقبال القيادة الفلسطينية، راغبة أو بحكم الأمر الواقع، كما حصل في الأردن قبل العام 1970 وفي لبنان حتى العام 1982، وفي تونس حتى قيام السلطة الوطنية عام 1994... في ظني أن هذه واحدة من المشكلات الكبرى التي ستعترض القرار الفلسطيني بحل السلطة في أي ظرف وزمان.
أضف إلى كل ما ذكر، أن جيوشاً من العاملين والمتقاعدين، باتت ترتبط وظيفياً ومعيشياً بالسلطة، وترتبط بهذه الشريحة، فئة واسعة من السكان، التي ستتضرر مصالحها ولقمة عيشها، إن فقدت السلطة جدارة الحياة واستحقاق المساعدات المالية والاقتصادية التي تتحول إلى رواتب ومكافآت، تترصد في حسابات الموظفين والعاملين آخر كل شهر ... الأمر الذي يعني أن استمرار السلطة على عجرها وبجرها، هو خيار مدعوم من قاعدة شعبية واسعة نسبياً، إن لم نقل أكثرية.
من بين جميع المزايا التي يوفرها وجود السلطة لإسرائيل، يبرز “التنسيق الأمني” بوصفه أحد أهم الوظائف والالتزامات التي يتعين على السلطة الوفاء بها بموجب اتفاقات أوسلو وما بعدها، فإن أحجمت عن أداء دورها، فإن احتمال “تفكيكها” سيقفز إلى صدارة الأولويات الإسرائيلية، وعندها لن تقبل تل أبيب بمجرد وقف تحويل أموال الضرائب الفلسطينية، بل ستخطو خطوات إضافية على طريق الانقضاض على السلطة ومؤسساتها.
السلطة تسعى في تحاشي هذا الخيار ما أمكن إليها سبيلا، وبرغم كل ما قيل ويقال عن “وقف التنسيق الأمني”، إلا أن إجراءً جدياً في هذا المجال، لم يُتخذ بعد ... في المقابل، ستذهب تل أبيب ومن خلفها واشنطن، بعيداً في التلويح بـ “ورقة المساعدات وأموال الضرائب”، على أن إجراءً نهائياً بهذا الصدد لم يتخذ بعد، ومن المستبعد أن يتخذ، طالما أن بقاء السلطة، وليس انهيارها، هو الخيار الأفضل للحليفتين الاستراتيجيتين.
قد توقف إسرائيل بعض “المستحقات” الواجب تحويلها للسلطة إلى حين، وقد تؤخر واشنطن إمداد السلطة بالمساعدات، وقد ترد السلطة بتخفيف وتيرة “التنسيق الأمني” و”إبطاء” مسار التعاون في هذا المجال، فيما يشبه عملية عض الأصابع بين الطرفين، لكن من غير المرجح أن يتخطى أي منهما “الخط الأحمر”، طالما أنهما لم ينتقلا بعد إلى مستوى استراتيجي جديد، في النظر إلى مسارات الحل ومصائر السلطة.